صلاحيات العقل عند الانسان (1)
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
عند مراجعة الفكر الانساني بشكل عام (مطلق) سيجد الباحث ان العقل الانساني مفتوح وليس له حدود سواء في الكفر او الايمان او في المعرفة والعلم ويبقى عقل الانسان في الزمان والمكان هو هو كما خلقه الله ..ولعل مجهولية تكوينة العقل تدفع العقل البشري الى اطلاق حدود العقل الانساني الى ما لا نهاية ولا توجد حافة مرئية يمكن ان يعتبرها الانسان هي (بوابة الخروج من العقل) وحتى لو بحث الانسان في مداخل العقل فانه سوف لن يدرك له ابواب للدخول لانه يبدأ من داخل العقل وهذا ما حصل للفيلسوف (ديكارت) القائل (انا افكر .. انا موجود) ... العقل لا يعرف له مدخل او مخرج بسبب مجهولية تكوينة العقل بشكل مطلق فالعقل لا لون له ولا وزن ولا ابعاد ولا يظهر على شاشة فحص ولا يخضع لاي جهاز تقييس مهما كان متطورا في تقنيات العصر .. كيفما يكون الانسان في صحوته فهو اسير عقله ولم يستطع احد وقف العقل في الصحو وبذلك لا يمكن ان يرى مداخل العقل ومخارجه بسبب خفاء تكوينة العقل ولكن للعقل مخارج ومداخل بين (الرشاد والضلال) كما سنرى في سطور لاحقة وهي التي تحدد شكل العقل ولونه وكثير من صفاته المجهولة .
القرءان يرينا حدود العقل الانساني في مثل بالغ الحكمة
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرءانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
في هذا النص القرءاني الذي نقرأه بشكل عابر في القرءان يكمن تحته مؤشر يؤشر لنا حدود العقل القصوى عند مخلوقي الجن والانس فرادى او مجتمعين (بعضهم لبعض ظهيرا) وعندما يكون الباحث قد اعتمد القرءان دستورا معرفيا فان النص اعلاه يضع للعقل سقفا عقلانيا في (قرءان) ويكون العجز العقلاني الانساني في الإتيان بمثله وذلك يعني ان لا يمكن الإتيان بما هو فوقه فيكون القرءان هو سقف العقل البشري عموما بموجب عقل يعترف بدستورية القرءان .... هذا يعني شيئا خطيرا في الممارسة الانسانية عموما فالخروج على ذلك السقف في جزئيات الخلق وسننه يعني الخروج من العقل والوقوع في متاهة ومهالك وهو حصرا يقع تحت وصف (الشيطان) ... عندما يخرج الناشط من العقل يكون في (اللاعقل) وهو يظن انه عاقل رصين بل هو انما يهلك نفسه ومن معه وهو ما يجري الان من حضارة نافذة مبنية خارج العقل الانساني الخاضع للسيطرة الالهية وبالتالي يكون (اللاعقل) هو النتيجة التي يحصدها الانسان الذي منح عقل لتدبير اموره ولكنه يستخدم عقلا لتدمير اموره وهو في غفلة عن امره . (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرءانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
من هذه المعالجة الفكرية القاسية على العقل فان الانسان حين يرتقي الى سقف العقل المودع في القرءان تقوم لديه فكرة التسلق الفكري وصولا الى الحافة القصوى فيجد ان ربنا قد صرف فيه من كل مثل ولم يستثن
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءانِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً) (الاسراء:89)
من هذا المنحنى الفكري الخطير سنجد ان نظام (العقل والقرءان) محصور في قلة من الناس والباقين هم مشمولين بالاكثرية (كفورا) وعندما يكفر الناس بامثال القرءان التامة الشاملة فان جميعهم سيكونون دون سقف العقل الذي خلقه الله واودعه في اجساد بشرية ..!! ومن هذا المنحنى الفكري الحاد فان الثقة بالمعرفة التي لم تستطع ان ترتقي بالسلم نحو السقف ستكون واطية الوصف ولا تصلح ان تكون الصلاحيات التي استخدمها الانسان لعقلانيته على مر العصور سليمة المصدر ويقينية المعالجة لانها تفتقد الى صفة (اللاريب) أي (اليقين) وهو مودع حصرا في ذلك الكتاب لا ريب فيه ..
عندما نتعامل مع سقف العقل في القرءان سنجد ان نظم الخلق قد احكمت سيطرتها على العقل الانساني وانه عقل محدد بحدود عديدة ومكبل بعراقيب مسبقة الاعداد في الخلق على غفلة شديدة من الناس الذين يتصورون ان الفكر الذي انتجه الانسان كان في غفلة من قيادة الخلق (الخالق) وكأن الانسان قد امتلك ناصية عقلانية مفتوحة لا حدود لها او مقعد عقلاني يحوزه الانسان وكأنه بمعزل عن نظم الخالق وحاكميته ... سنرى واحدا من اغرب الطروحات القرءانية التي عولجت في مشروعنا لحد الان ويمكن حشر عنوانها في نصين قرءانين يوضعان في كفتي ميزان فكري من النوع الثقيل جدا
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الانبياء:73)
وهنا نرى بعقل بشري يقرأ القرءان ان الله قام بعملية (جعل) أي عملية (خلق) لأئمة يهدون بامر الله حيث تظهر حاكمية الله في امره المباشر لاولئك الائمة المجعولين في الخلق ... فهم ائمة مصنوعين صناعة الهية ويباشرون اعمالهم بامر الهي مباشر (واوحينا اليهم) ...
وفي كفة الميزان الاخرى :
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (القصص:41)
وهنا نرى (جعل) اخر أي (خلق) من نوع مناقض للاول في ائمة جعلهم الله يدعون الى النار وبما انهم مجعولين فهم (عقلا) مكلفين بامر الهي في الدعوة الى النار ولكنهم لا مثوبة لهم بنص شريف (ويوم القيامة لا ينصرون) لانهم مرشحين من قبل الله لسوء كبير في عقولهم فهم قد افلتوا من منظومة (ائمة يهدون بامرنا) فاصبحوا مرشحين ليكونوا ائمة يدعون الى النار فكانت عقولهم النتنة سببا في امامتهم في الدعوة الى النار وبالتالي فهم لا ينصرون يوم لا ناصر الا الله ..!!
في هذه المعالجة الفكرية (عقل + قرءان) يتضح ان حدود العقل الانساني تخضع لنظام تسلطي يتسلط عليه الله بالحق ويخضع ائمة الكفر الى منظومة الدعوة الى النار ومنظومة ائمة حق يهدون بامر ربهم فاصبح لدينا
بوابة دخول الى العقل الانساني الراشد
بوابة خروج من العقل الى مساحة العقل الانساني الضال
وعلى البوابتين (ائمة) تم جعلهم بموجب منظومة خلق العقل (جعل) والتي تمثل حدود العقل الانساني (رشاد العقل ... ضلال العقل) وهنا يبرز وصف شديد القساوة ان الخارج من بوابة العقل يفقد (أنسه) فتضيع انسانيته فيكون عقلا بلا انسانية (ضلال العقل) .
من هذه المعالجة يتضح ان ائمة الكفر هم برنامج الهي مسيطر عليه فلم يكن (داروين) او (فرويد) او (ماركس) في منأى عن برنامج الله وحاكميته بل كانوا وغيرهم من الدعاة الى (النار) هم في برنامج (جعل) الهي وهي تقع في منهج خلق العقل الانساني وبرامجيته الشاملة على الارض .
من ذلك نقرأ في القرءان ان الداخل الى سقف العقل القرءاني (رشاد العقل) يشترط فيه ان يتطهر قبل مساسه
(إِنَّهُ لَقُرءانٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79)
وفي هذا النص (العلمي) يرسم القرءان معالم باب الدخول الى العقل الراشد من حامل العقل الضال وشرط الدخول والانتقال من صفة عقلية الى صفة عقلية اخرى (الرشاد .. الضلال) هو التطهر العقلي ... وبذلك يتضح ان العقل يتكون من شطرين رئيسين والقرءان يؤكد الشطرين
(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الانسان:3)
الاول : وهي مساحة عقل سقفها القرءان (الرشاد العقلي)
الثاني : وهي مساحة عقل تقع دون ذلك (الضلال العقلي)
والقرءان يفصل ذلك تفصيلا رائعا مذهل في حكمته
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً) (الفرقان:50)
سيقول قائل ان ذلك يخص المسلمين فقط الا ان ولوج علوم الله المثلى يفتح العقل على مضامين خلق غير معروفة ليومنا هذا وهي ان القرءان لا يقيم في العقل مادة عقلية بل استخدام القرءان في التذكير فقط وما في القرءان من مادة قرءانية هي بمثابة مادة عقلية تذكر العقل الانساني بمادة هي فطرة الله التي فيها (مواد العقل في التكوين) وهنا يكون القرءان سبب ربط مرابط القرءان بمادة العقل الفطرية فالقرءان مذكر يذكر الانسان بشيء مودع في عقله وقد اودعه الله فيه وهو (كينونة العقل) المجهولة في حضارة الادميين
(ص وَالْقُرءانِ ذِي الذِّكْرِ) (صّ:1)
وعندما يعترف العقل البشري ان العقل هو تكوينة الهية لها لبنات وفيها بناء كينوني سيبحث عن تلك اللبنات فتظهر المادة العقلية للعلم البشري وتنتهي ظلمة مجهولية العقل
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)
لا تبديل لخلق الله فالعقل هو العقل عند الانسان سواء كان مسلما او غير مسلم وسواء يعيش اليوم او كان قبل الاف السنين و (الدين قيم) وقيموته في العقل (فطره) ولكن امثال القرءان مهجورة لا يعرفها طلاب الحقيقة ..
وما من صغيرة ولا كبيرة الا واحتواها خلق الله ومنح العقل الانساني ادراكها والتعامل معها فكل الخلق هو مساحة عقل الانسان ومن اتقن عقله يكون من الشاهدين فلا يموت عقله بموت جسده بل يكون حي عند ربه وله رزق
ونحن في تطبيقات سنة رسالية شريفة من أمر الهي مسطور في قرءان
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) (الأعلى:9)
الحاج عبود الخالدي
تعليق