ذاكرة عراقية (1 ــ 5)
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
تعقيبا على احداث العراق الدامية والقتال الجاري بين العراقيين في يومنا بما يختلف كثيرا عن شعوب الارض وبما يضع اهل العراق في موصوفات قاسية وجدت من الواجب ان احرر هذه الذاكرة لغرض معرفة جذور هذه الصفات النادرة في شعب اسمه شعب العراق عسى ان يستطيع متابعي الكريم وضيفي الفاضل على هذه الصفحات ان يربط وضع العراق القاسي بنظرية المؤامرة ومنذ اكثر من نصف قرن
انا مؤمن ان ما اكتبه يخضع لرقابة الله سبحانه وفيها ومنها مسؤولية ايمانية لا يمكن ان يتحملها شخص في مربعه العمري الاخير من اجل ان يقال له احسنت او سلمت يداك بل هو واجب شرعي يتوجب علينا نقله من اجل اظهار الحقيقة القاسية عسى ان تسري الحقيقة بين الناس لان الجماهير العراقية لا تزال تمتلك ناصية التغيير وهذه الذكرى تنفع كثيرا في عملية التغيير المرجوة .
تبدأ الذاكرة مع شتاء 1956 وانا في بداية المقعد الدراسي الابتدائي في زمن الحكم الملكي الهاشمي ... كنت اشاهد القرويين في مدينتي على فقر شديد مختلف تماما عن فقراء مدينتي وكنت اتسائل عن سبب ذلك الفقر المقرف ولعل بعضا من القرويين المستخدمين كعمال في مصنع المرحوم والدي كانوا يسعفون تلك التساؤلات عن مظلمتهم مع الشيخ فلان او السركال فلان او الكليط فلان (مسميات تدرج الهيمنة العشائرية في العراق) مما دفعتهم الى هجرة الزراعة والديرة الى المدينة نتيجة الجوع والظلم والحرمان حتى من حد الكفاف .. كنت احيانا اعطي مصروفي اليومي لصغير من عمري يأتي مع اباه للمصنع فكنت اقرأ في وجهه العجب فهو لا يعرف العملة ابدا ولا يعرف ما هي وظيفتها ... عندما استعر العدوان الثلاثي على مصر فزعت من المظاهرات المفاجئة التي غصت بها شوارع المدينة ... كان يشارك فيها والدي وعمال مصنعه وهو يحملني على كتفه ليصرخ (يسقط العدوان يسقط الاستعمار) وكانت المظاهرات سرعان ما تتحول الى ساحة قتال بين المتظاهرين وشرطة المدينة والفزع يتزايد عندي مع صوت الرصاص وانا لا اعرف حقيقة ما يجري سوى قسمات وجه ابي الغاضبة او قسمات وجهه الضاحكة المستبشرة وهو يستمع الى نشرة الاخبار التي تصاحبها اناشيد لا اعرف مضامينها ...
عندما عادت الدراسة بعد الازمة كنت اسمع من معلمي ما يتناقض مع ما اسمعه من والدي فالمعلم يمجد بالحكومة ووالدي يلعن الحكومة فكنت اتقلب بين مثلين أعلى يمثلان مصدر المعرفة بالنسبة لي وانا لا افهم روابطهما الا حين كبرت فعرفت ان الناس كانوا منقسمين على بعضهم من اجل قضية بعيدة عن ديارنا ...
في صبيحة يوم الرابع عشر من تموز صعقت مستيقظا على صرخات والدي السارة البهيجة وهو يقول بما معناه لقد انتهى الظلم سقطت الحكومة ... ففرحت لفرح والدي وشاركته شيئا من مسرته وهاجت الدنيا بمن فيها لسقوط المملكة وقيام الجمهورية الا اني فوجئت ان والدي لا يرضى على ذلك التغيير وهو يقول ما معناه (اصبح العراق كالدار المؤجرة كل موسم لها مستأجرين جدد) ولم اكد افهم مغزى مقولته الا عندما كبرت وحاورته فقال لي ان الثوار اتحدوا من اجل اسقاط الملك واختلفوا على مناصبهم وصدق قوله في جمهورية العراق الثانية (الانقلاب العسكري الاول عام 1963 ) ... وما اشبه اليوم بالبارحة ..!!
مع بدايات ثورة عبد الكريم قاسم كنت ارى تغيرا ملموسا في حركة القرويين في مدينتي وبدأت افواج منهم تتوافد على مدينتي فكنت اتسائل فأفهم على قدري ان الاقطاعيين هربوا وتحرر الفلاح من استبدادهم وظلمهم وما هي الا سنة ونيف حتى صدر قانون الاصلاح الزراعي الذي حدد ملكية الاراضي الزراعية بسقف قانوني وصودرت الاراضي التي تزيد على ذلك السقف ...
عندما كبرت وتطوعت للبحث عن الحقيقة عرفت من هم الاقطاع فهم مالكي الارض الزراعية الشاسعة وعرفت في بحثي المتقدم في الثمانينات من القرن الماضي ما هو ادهى وامر ... !! عرفت ان الاقطاع في غالبيته ووسعة اراضيه الشاسعة المملوكة هو وليد الغزو البريطاني فقد كان العراق في ظل الحكم العثماني يسقي الارض بمساحات تغطيها تقنيات بدائية (الناعور) وهو جهاز خشبي يدار بواسطة البغال يرفع الماء اربعة او خمسة امتار ليسيح في الساقية لحدود لا تزيد على 1000 متر عن ضفة النهر في احسن الظروف ... عندما دخل البريطانيون العراق استقبلهم كثير من الناس كما جرى في 2003 واولئك المتعاونون مع المحتلين شغلوا مناصب عليا كثيرة في الحكومة الملكية الوطنية ..!! كما جرى في 2003 ... وتم تعيين اغلبيتهم في مجلس الاعيان فحصلوا بموجب برامجية مسبقة الاعداد على تقنيات السقي الميكانيكي الحديثة التي تدفع مياه النهرين الى نقاط قد تصل الى 35 كيلومتر عن حافة النهرين مما زاد في وسعة الاراضي الزراعية بشكل كبير جدا وحصل اولئك المقربون المدللون على ملكية تلك الاراضي وكانت برامجيتهم مسبقة الاعداد بشكل واضح كما سنرى فكثير منهم لم يكونوا فلاحين او من اصول فلاحية اساسا وفيهم مهاجرون حديثي العهد بالتوطن في العراق .... فاصبح الفلاح مستعبدا في تلك الاراضي نتيجة ان ملاك الارض هم الاسياد الرسميين للدولة الملكية سواء كانوا شيوخ عشائر او سياسيين علمانيين فحصل الظلم والتمرد في قصة الحدث المبرمج وكانت الساحة المجتمعية والسياسية مهيئة لثوار الجمهورية الاولى ان يتحركوا ببرامجيتهم بنجاح منقطع النظير نتيجة اختناقات صنعت وفق منهجية مسبقة الاعداد وحدث فعلا ان رقص الشعب العراقي لقانون الاصلاح الزراعي واكثر الراقصين كانت من الطبقة الفلاحية والعمالية خصوصا وان الفكر الشيوعي كان قد غزا المجتمع الشبابي نتيجة طغيان الحكم الملكي واستبداد جلاوزته وانتشار الرشوة والفساد في جسد الدولة الادارية ... ساعد في ذلك نجاح البهرج الحضاري وميل امريكا والغرب صوب اليهود المحتلين مما دفع الشباب ذو الدم الساخن الى امتطاء الشيوعية من اجل وازع ثوري قومي ووطني فكانت الضحية هي العقيدة الاسلامية في اقسى ضربة موجعة لها على غفلة من حكمائها ..!! والا كيف ينتشر فكر ملحد وسط عقيدة الاسلام ..!! ما لم يكون هنلك خطة محبوكة وهنا ليس طعنا في الشيوعيين بل وصف حال لاستقبال الفكر الشيوعي رغم تناقضه العقائدي الا انه كان يمثل مركب ثوري ليس له خيار توأم ...
قائد ثورة التحرير عبد الكريم قاسم قام في بدايات الثورة باخراج الاقتصاد العراقي من دائرة الهيمنة الاسترلينية وحرر الدينار العراقي من التغطية الاسترلينية فاصبحت اموال العراقيين (سيولة الدينار العراقي) مجرد ورق مطبوع (عملة محلية) واستطاع ان يستخدم خزين التغطية الاسترليني في مشاريع بناء الجيش وتسليحه الفخم لغرض تحرير فلسطين وكنت اسمع احاديث الاهل والناس وهم يفخمون ذلك الموقف الجبار بسبب التعاطف الجماهيري الكبير مع قضية ضياع فلسطين بين ايدي اليهود الذين يعتبرون العدو رقم واحد للاسلام ... كما ظهرت في الساحة العراقية حمى توزيع الاراضي السكنية في المدن بدراهم بخسة للغاية واستعرت تعيينات وظيفية هائلة كما جرى بعد 2003 وحفرت قنوات زراعية كقناة الجيش في بغداد وبناء سد دوكان ودربندي خان وسد الثرثار والحبانية وسط اهازيج شعبية عارمة وغفلة جماهيرية قاسية فمثلا كان يوم 1 ايار عيد العمال يمثل كرنفال شعبي يعلن عن مصادقة جماهيرية لما يجري في دست الحكم الرسمي مع سماع خافت لخلافات ناصرية قاسمية ومعارضة سياسية تكاد لا ترى الا حين اعلن عن محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد في 1959 ... كان شعب بغالبيته يغني (عبد الكريم كل القلوب تهواك) وسط خطاب رسمي سياسي ثوري عسكري ناري وضع الجيش (فوق الميول والاتجاهات) وكأن الدنيا ستكون بين يدي ذلك الضابط المتمرد على اسياده ..!!
الانفاق المفاجيء للاموال في ساحة عراقية ادى الى تحسن كبير في دخل الفرد اليومي وارتفع اجر العامل غير الماهر من 150 فلس ايام الحكم الملكي الى 250 فلس ايام الحكم الجمهوري ... من جهة اخرى حصلت برامجية ذكية من قبل مصمم الخطة العراقية فقد منح قانون الاصلاح الزراعي والتعليمات التي صدرت بعده لتسوية الاراضي المصادرة حقا للاقطاعي باختيار الجزء الباقي من سقف حصته القانونية فقام الاقطاعي باختيار الاراضي المطلة على النهرين كتحصيل حاصل لخسارته الاستثمارية وبالتأكيد كانت مكائن الري ضمن تلك المختارات مع العلم ان القانون لم يصادر مكائن الري ..!! ولم يضع طريقة لتشغيلها من قبل الدولة او من قبل الجمعيات الفلاحية الفتية ..!! كما ساهمت ايران الشاه بتلك الخطة فاغلقت نهر (الوند) الحدودي مما دفع الفلاحين الى هجرة متزامنه مما يدلل على قدرات المصمم الفائقة في استخدام ادوات ميدانية فعالة كما يدلل على أممية الخطة ضد اهل العراق ... وما هي الى سنة ونيف من القانون حتى وجد الفلاح العراقي نفسه يمتلك سند حق التصرف في الارض ولا يمتلك وسيلة سقي مزروعاته مما ادى الى استيراد الرز (البسمتي) والحنطة بعد قرابة سنتين من قانون الاصلاح الزراعي وحصلت هجرة فلاحية واسعة لكل الوية العراق (المحافظات) وتركزت اعداد هائلة في صرائف طينية في مدينة الثورة ومدينة الشعلة في بغداد وفي كل مركز محافظة وقضاء حصل نفس الشيء وبزخم هائل لا تزال تحمل الذاكرة سرعته وفورانه فتورط الفلاح في مدنيته الجديدة البائسة ونتيجة للتغير الذي حدث في الجمهورية الثانية (انقلاب عبد السلام عارف عام 1963) تدهور الوضع الاقتصادي فجأة وبشدة (سحب البساط من تحت الاقدام) بعد ان نفدت اموال العراق الاسترلينية التي حازتها الحكومة القاسمية وتراجعت بشكل مخيف معدلات الاستثمار الفردي مما جعل المهاجرين القرويين الوديعين الودودين يمثلون ءافة مجتمعية في بغداد ومراكز المحافظات والاقضية وتراجع كل شيء بلا استثناء وبدأت اخلاق الجماهير القروية المهاجرة الى المدينة تتراجع وفقد الودود وده وانقلب الوديع الى شرس وفق خطة محكمة الاداء عميقة الهدف ...
عند قيام ثورة تموز وبعد حملها البهيج الاول شكلت مليشيات سميت (المقاومة الشعبية) احتوت الشباب وغالبيتهم من حملة الفكر الشيوعي الذي عانى من السجن في الحكم الملكي او اصول فلاحية عانت كثيرا من الاستبداد والظلم الاقطاعي او في الشارع الجماهيري بالفقر الشديد والضياع القاسي وعند البحث لاحقا في منظومة السجون في العراق والتي سجن فيها غالبية اولئك الشباب اتضح لي بالبحث العنيد ان السجون كانت تمثل مصانع تصنع رجالا خارجين على النظم بكل صفات قنوات الخروج على النظم المجتمعية والدينية والاخلاقية وكانوا يحملون من الشراسة اشدها نتيجة القساوة التي استخدمت ضدهم وبما انهم اصبحوا مسلحين في مليشيات مدعومة ثوريا ملأت الشوارع فحدث ان زمام الاخلاق بدأ يتردى في المجتمع العراقي وتحمل ذاكرتي تجاوزات قاسية حصلت ضد المجتمع واصبح العراقيون ينهشون بعضهم في ساحات صراع متعددة ... وما هي الا برهة زمن حتى انقلب عبد الكريم قاسم على الشيوعيين ومزقهم شر ممزق وحشرت غالبية تلك المليشيات في السجون والمعتقلات المعروفة ببرنامجها القاسي دون تهمة او محاكمة وتحمل ذاكرتي عويل امهات لمعارفنا وعدد غير قليل من عمال مصنعنا وفجأة وبلا مقدمات اطلق سراح اعدادا كبيرة منهم قبيل سقوط الحكم القاسمي بحيث يمنح الباحث مركزية فكرية مؤكدة انهم صنعوا صناعة للخروج على النظم مرة اخرى ليكونوا ضمن حلبة صراع اقسى في الحكم البعثي العارفي وهنا في هذا المفصل من الخطة تم تفعيل البعثيين بواسطة الشيوعيين الذين امتلكوا قساوة مصنوعة في سجونهم ..!! فانتقلت شراسة الشيوعيين الى البعثيين في صدام مسلح قاسي فاقدا للخلق الوطني والقومي والديني والاجتماعي في شوارع بغداد في الرابع عشر من رمضان عام 1963 واستمر لاكثر من عشرة ايام كانت كافية لان يشرب الثوار الجدد الدم العراقي ..!! لتقسى قلوبهم ..!! ونرى بعد هذا العجب ...
ساواصل بمشيئة الله تقليب الذاكرة واربطها بمصمم الخطة العراقية كلما استوجبت ضرورة الربط مع التأكيد ان ذاكرتي الشخصية لم تكن تحمل مرابط الحدث مع خطة المصمم عند رسوخها في الذاكرة في زمن الحدث فالمرابط التي تربط الحدث بالحقيقة هي وليدة بحث متقدم تألق بين يدي بين عام 1984 لغاية 1990 وكان سبب التألق هو نور القرءان الذي بدأت ارى فيه سنن البحث عن الحقيقة كما فعل ابراهيم في البحث عن حقيقة الخالق ...
املي كبير في ان يدرك متابعي الفاضل ان جهدي ليس سياسيا وليس لي عداء فئوي فكري او عقائدي فكل الفئات العراقية اخوتي وهم ضمن مصيدة المصمم ودقة وقوة حبك خطته وان جهدي يصب في رافد عقائدي يسعى الى امل في التغيير الجذري من اجل اهلنا واولادنا واحفادنا في عراق اليوم بكافة اطيافهم ...
الى لقاء في ذاكرة عراقية (2)
الحاج عبود الخالدي
تعليق