ذاكرة عراقية (4)
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
استمر الثوار الجدد في الثورة البيضاء مهمتهم المركزية في تلك المرحلة في دائرة حشد الشعب العراقي في قبضة حكومية من خلال الاتفاق العراقي الكردي (11 اذار) فكانت اهزوجة وطنية أراحت الجماهير من قتال طويل ادمى العراقيين جميعا بعربهم واكرادهم وفي حين فرحت الجماهير فرحا لا مثيل له وهي تتصور ان القيادة الثورية قد غادرت العنف الى حياة مدنية وتطور زراعي وصناعي الا ان الذاكرة التي تربط الحدث بالحدث الذي أتى بعده مع التصرفات السابقة تتجلى الصورة التي كانت تشير الى اعداد برنامج اسود ترسمه الفئة الباغية للعراقيين على ايدي الثوار حيث ترسانة الاسلحة تتكدس وتعبئة المقاتلين تتواصل بشكل لم يسبق له في العراق مثيل تحت شعارات تحرير فلسطين واعادتها الى اهلها وانهاء الوجود اليهودي فيها وقد تم تسجيل توافقية ثورية بين قيادات المقاومة الفلسطينية وثوار العراق الجدد مع طموح جماهيري كبير بتحقيق الاحلام الوردية ويظهر سواد التصرفات الوردية بعد زمن قصير حين ينهار الوفاق الحكومي الكردي بشكل كارتوني كما تم بشكله الكاريكارتيري الاول ...
هشاشة اتفاق 11 اذار ظهرت في البداية ومن ثم ظهرت بعد اربع سنوات حين قام العصيان الكردي تارة اخرى .. اين كان المتعاقدون من تلك الهشاشة التي ظهرت بعد اربع سنين ... ؟؟؟ مسرحية يتلقفها الجمهور وكأنها حقائق ميدان وما هي الا مؤامرة ميدان لا تظهر في يومها الاول بل حين تجمع الذاكرة متراكماتها فتظهر مقاعد الاخراج المسرحي خلف ستائر المسرح ...
سارعت الحكومة الثورية الجديدة الى نشاط ثوري صناعي في ضخ العشرات من المصانع الثقيلة الى البلد وعلى مساحات جغرافية متباعدة تحت حجة موازنة التوزيع السكاني بنظم اقتصادية وقد شملت عملية استقطاب العمالة اليها في اسفاف متعمد وتم تعيين اعداد لا منطقية من العمال في تلك المشاريع وعندما يتم وضع تلك الشريحة من الذاكرة تحت المجهر الفكري يتضح ان الخطة السوداء تستنفذ كامل طاقتها في تجنيد الشعب العراقي وتقييده بالقيود الرسمية من خلال انتمائه الى مؤسسات الدولة ... من افلت من التطوع العسكري بسبب عدم رغبته او بسبب تقدم سنه عن شروط التطوع او بسبب ضعف قدراته البدنية تم استقطابه في تلك المصانع مع وعود ذهبية في حياة آمنة رغيدة ومستقبل عظيم وقد ساهمت عمليات توسيع الانتاج النفطي في انشاء مؤسسات عملاقة استقطبت مئات الالاف من العمال والمهنيين واعلنت ثورة الانتاج النفطي الواسع في مجمل حقول النفط واصبح النفط ممول لتلك الخطط الانفجارية كما كانوا يسمونها والعراقيون لا يعلمون ان اجسادهم هي المستهدفة وان ما يجري كان عبارة عن ادوات لخطة طويلة الاجل الغت وبشكل فعال قدرات الجماهير على صناعة قدرها الآتي وما هو الا عقد من الزمن حتى وجد العراقيون انفسهم في وحل لزج نتيجة تلك الخطة في حرب شرقية مدمرة واقتصاد يتراجع ولا بديل وطني يعوض النقص المتزايد في مجهضات الاقتصاد الوطني الداخلي بسبب تسويق شعب كامل في خطة مترامية الاهداف وقد ظهر مدلول تلك الخطة عندما تم غزو الشارع العراقي من العمالة الاجنبية وخصوصا المصرية لغرض تأمين الخدمة اللوجستية للعراقين الراقصين في ميادين القتال في اكبر جريمة ارتكبت بحق الانسان العراقي عندما يفقد المجتمع مهنيته بشكل شبه تام ولا تزال الذاكرة تحمل اقسى صور تلك المرحلة عندما كان دفن الموتى العراقيين يتم بواسطة ايدي مصرية لاختفاء اليد العراقية المهنية في كل ميدان حتى حرفية دفن الموتى ...!!!
شعب يأكل النفط ... ذلك كان العراق الذي تم حشده في الجهد الحكومي حتى في المهن الشفافة كالموسيقى والغناء والرقص فقد تحول الفن الى جزء من الجهد الحربي في انتاج الاناشيد والمارشات العسكرية وقد شهد العراقيون فترات عصيبة ابان اشتداد الصراع على الجبهة الشرقية الطويلة جدا والتي خصصت لاستهلاك شعب عبر ثمان سنين وفق انشودة وطنية عقيمة لا يختلف اثنان على عقمها عندما اعلن ثوار العراق بعد دخول الكويت العودة الى ما كانت عليه الاحوال قبل 1980 من حيث الحدود الوطنية التي شربت كثيرا من الدم العراقي ..!!
شفافية الثوار تألقت في اقامة جبهة وطنية تضم الاحزاب المعارضة للحكم البعثي خصوصا الشيوعيون الذين يلتقون مع البعثيين في عدائهم الامبريالي ويختلفون معهم في ايدلوجية الواجهة السياسية فكان النصر الكبير لتلك الاتفاقية المشبوهة التي لم تعيش سوى بضعة اشهر ولعل الذاكرة تسعف مشغل البحث عن ايدلوجية تلك الوحدة الديمقراطية الغريبة والتي كانت سببا في لملمة الشمل الشيوعي المتفرق والمذاب وسط الجماهير فما ان اعلنت الجبهة الوطنية حتى سارع الشيوعيون المنفلتون من شيوعيتهم الى التحشد من جديد تحت راية حزبهم المنكوب وتعالت بهجتهم وكأنهم في نصر لوجستي عظيم وهم لا يعلمون ان الجزار انما يطعم خرافه لكي لا تهزل لان وزنها عنصر مهم في تجارته ..!!
واجهات الشيوعيين في المجتمع ظهرت بعد خفاء والسنتهم الشيوعية تحركت بعد صمت وتحمل ذاكرتي من تلك الحقبة ان اتصل بي اكثر من شخص يدعوني للشيوعية ومنهم من يدعوني الى احتفاليات ذات شعارات شيوعية وعاد اللون الشيوعي يظهر بين الجماهير بصيغة وديعة تختلف عن صيغته المسلحة الضاربة (المقاومة الشعبية) ابان بدايات الحكم القاسمي ... كنت اسمع من جيل الاباء ابتسامة ساخرة تقول ان الوفاق الشيوعي البعثي معجزة صنعها ساحر عليم لان الصراع بينهم دامي لحد ادمى مجتمع العراقيين في تاريخهم المعاصر بشكل مزري فكيف اجتمعوا على طاولة شفافة ..؟؟ وما هي الا اشهر حتى تم افتعال ازمة بين الشيوعين والبعثيين ما ان سمعنا بها اليوم حتى استعرت حمى اعتقال الشيوعيين في اليوم التالي وسرعان ما تفرق جمعهم واختفت شخوصهم من الساحة وانقلبت اعداد كبيرة منهم الى شمال العراق ليتم تسريبهم الى اوربا الشرقية وفق خطة ممنهجة ساهمت بها تركيا التي سمحت بامرارهم من اراضيها وفق سياسة (غض الطرف) عن ما يجري في القرى الحدودية واصبحت وثيقة الجواز العراقي وثيقة قابلة للبيع في تلك البقاع فخرج جيل كبير من الشباب الى اوربا وغيرها فمنهم من نجى ومنهم من غرق في السياسة او حواشي السياسة وهم اليوم في مقاعد نضالية ويملكون من الذاكرة اقسى صنوفها ومن الحرمان اقسى انواعه فاصبح العراق بالنسبة لهم (كيكة شهية) لا تشبع جوعهم ..!! تلك ذاكرة عاشت قبل الحدث ب 30 عاما لترى نتائج الخطة كيف رسمت من جذورها الاولى بزمن طويل غير مرئي زاد عن ربع قرن ...
لم يعيش الوفاق الكردي العربي في اروقة الحكومة الثورية فسرعان ما تهرء الاتفاق وعاد العصاة الى قمم الجبال والكهوف وكانوا يشكلون في تلك الحقبة الوسط المثالي لتسرب الشباب العراقي الى خارج الحدود للخلاص من الفتك البعثي ولاكثر من فئة فبعد عام 1974 كان الشيوعيون هم الصنف الذي يعبر الحدود عبر متمردي الشمال وفي عام 1977 ظهرت فئة جديدة بعد الاحداث الدامية في منطقة الحيدرية بين محافظتي النجف وكربلاء والتي تسببت في اعدامات سريعة مما دفع باعداد كبيرة من الشباب الشيعي الشرس والتي تمت صناعة شراسته في الحكم القاسمي والعارفي الى عبور الحدود عبر المنافذ الشمالية بمباركة ومساعدة المتمردين الاكراد ..!! ولم يكون ذلك هو الصنف الاخير بل شملت اصناف كثيرة من الطيف العراقي بعد ان نزع ثوار الثورة البيضاء اقنعة الود التي لبسوها اثناء بدايات الثورة فقد اختلف شأن الود الحكومي في عام 1974 بعد ان استنفذت عملية تسويق الجماهير في زرائب معدة في جيش او صناعة او زراعة فكانت مظاهر الود قد ادت دورها فانقلب الود الى عنف ضد (اعداء الثورة) لدفعهم الى خارج الحدود لتنظيف ساحة العراق من أي خروقات محتملة ولضمان سلوكية رتيبة للجماهير ومن لا يعجبه الوضع فهنلك مسارب للخروج عبر شمال العراق وعبر سوريا التي كانت تقبل العراقيين بدون جواز سفر ..!! في تصرف غريب جدا باعتماد البطاقة الشخصية ولغاية الهزيع الاول من عمر الحرب المشرقية .. كذلك هنلك اهوار في الجنوب تم اعتمادها كنوادي للمتمردين الرافضين للمنهج البعثي الجديد وكان المعارضون والمتمردون يلجأون الى تلك المناطق النائية مع وهن حكومي مقصود في مطاردتهم لكي تكون مرتعا لسحب الاشخاص الذين يشكلون كابحات الخطة من المعارضين لها ... كان ذلك (نهاية الود) فقد شهدت تلك الفترة اعدامات سريعة لمؤامرة مفتعلة هزيلة كان الهدف منها اعلان نزع قناع الود واعلان العداء ضد شاه ايران بصفته المنسق والمنظم لتلك المؤامرة الانقلابية التي ضمت مجموعة من المثقفين رجالا ونساءا وقد برز في حينها اسم الطبيبة فاطمة الخرسان ...
كانت احداث 1973 على الجبهة السورية اعلان رسمي كبير لهوية الجيش العراقي في تحرير فلسطين وتمحورت الشعارات التحررية لذلك الجيش من خلال مشاركته الفعالة في الجبهة السورية والتضخيم الاعلامي لوحدات من المدفعية العراقية كان كافيا لاعلان هوية جيش العراق وقد ساعد في ذلك تصريحات المسؤولين اليهود (كلما دمرنا وحدة عراقية جيء بغيرها) حيث ساعدت تلك التصريحات ثوار العراق بالصاق الهوية التحررية العربية لجيش العراق في حين لم تسعفنا الذاكرة عن اعداد تذكر من الشهداء لان عين المجتمع ترى نعوشهم في شوارع المدن وتقرأ لوحات النعي لمجالس عزائهم الا ان ذلك لم يظهر بشكل يتناغم مع تصريح اليهود في ابادة وحدات عراقية متلاحقة وهنا يبرز على طاولة البحث ادوات المصمم الاممية التي يكون الاعداء التاريخيين ادوات متناغمة مع الوطنيين من اجل الهدف ..!!
تم اعلان هوية الجيش العراقي في التحرر العربي ابان الحشود الضخمة التي حشر فيها الجيش العراقي على الحدود السورية تحت شعار (الساحة العربية) وقد تم خلالها استدعاء اكثر من جيل من الجنود المكلفين الاحتياط وتعود بنا الذاكرة الى تلك الحقبة لربطها بالتطورات التنظيمية للجيش المعد لمرحلة لاحقة حيث تم تدشين قيادات تنظيمة ثلاث لم يكن لها وجود قديم وتاريخ تجريبي وهي قيادة الفيالق الثلاث ذات التشكيلات الفتية فكانت تحتاج الى ممارسة ميدان (تمارين) فكانت الساحة العربية ذات هدف مزدوج ولا يمكن ان يوصف هذا التخريج وصف سوء الظنون لان مسلسل الاحداث يثبت ان جيش العراق دخل الحرب الايرانية بتنظيم عالي الدقة وكان عدد التشكيلات المضافة يزيد على اصول الجيش العراقي العارفي بمعدل عشرات المرات بل اكثر وكانت حجوم المكننة فيه تمثل ترسانة جديدة فكان لا بد من تجارب ميدان ينضبط من خلالها ذلك الكم العسكري الكبير المتحرك ومن وسائل الثوار وقيادة الجيش ان تم تفعيل منهج سنوي اطلق عليه (التدريب الاجمالي) حيث اصبحت المناوارات العسكرية جزء من المنهج العسكري خلال اربع سنوات سبقت حرب الحدود الشرقية ...
ذاكرتنا التي تربط كل شيء بالمؤامرة وتصفها بالاممية كانت فعالة في الجانب الايراني كما كانت فعالة في الابعاد الفكرية العقائدية في المجتمع العربي فما ان انطلقت الثورة الايرانية ذات التطرف العقائدي ظهر في تصريحات ثوار الاسلام هوس تصدير الثورة الاسلامية وهو يعني فأس ضد كراسي الحكام لا محال مما منح القادة العرب الحق في التصدي لتلك الشعارات من خلال تبني واحتضان الابن البار في العراق والذي سيحمي الشعب العربي في جبهته الشرقية وبشكل يجافي المنطق في الاستراتيجية البعثية التي جعلت من دول الجوار حكام امبرياليين اعداء للثورة العراقية ولكن ذاكرة الجماهير هشة ولا تربط اليوم بالبارحة دائما فقد تم في وضح النهار تجيير الهوية العربية التحررية لجيش العراق الى جبهة شرقية وليس جبهة فلسطينية كما كان نشيد جيش العراق واهله وثواره ... الثورة الايرانية الفتية التي كانت في بداياتها والتي لا تمتلك مقومات قوتها تحركت بلا منطق في شعارات تصدير الثورة وكانت تلك الشعارات اداة من ادوات المصمم الذي استطاع ان يدير دفة السلاح العراقي والحشد التطوعي الهائل الى سهام مصوبة نحو شرق العراق وليس غربه فكانت خيوط المؤامرة تتضح من تحت مقاعد الحكام على مختلف الوانها ..!! وشعب يغفو على نشيد وطني هنا وشعب يغفو على نشيد عقائدي هناك ومؤامرة ذات خيوط غير مرئية ..
الله هو اكبر حقيقة يبحث عنها عقل الانسان .... وهو سبحانه خارج المادة ... ولا يمكن الامساك بحقيقة الخالق الا من خلال العقل ... هكذا علمنا القرءان كيف نمسك الحقيقة الضائعة رغم غياب عنصرها المادي وذلك مثل ابراهيم عليه السلام الباحث عن حقيقة الخالق ... ونحن نبحث عن خطة خفية ... ولا وسيلة الا العقل ... فهل من مدكر للعقل يرى معي ما ارى
الى لقاء في ذاكرة عراقية خامسة
الحاج عبود الخالدي
تعليق