الفطرة والعقل
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
الفطرة هو مصطلح يتداوله الانسان يدل دلالة واضحة على عموميته في البشر حصرا فكل ما فطر عليه الانسان عقلا دخل قاموس الفطرة والفطرة موصوفة وصفا عقلانيا محضا وقد خصت الثقافات الانسانية فارقة تفرق بين الفطرة العقلانية والسلوكية الحيوانية فكل ما فطر عليه الحيوان يسمى سلوكيه وتبقى مفاهيم الفطرة حصرا بالانسان وهنلك فارقة اخرى تفرق بين الغريزة والفطرة فالغريزة تصرفات مادية جسدية يختص بها الانسان كلما كان الرصد في موضوعية جسدية وتختص الفطرة الانسانية بعقل الانسان المتميز عن بقية المخلوقات .
القرءان الكريم وصف الفطرة الانسانية تحت الامثال القرءانية بصفة (ابراهيم) وهو البريء وهي نفس الصفة نستخدمها مع الانسان (الفطري) فنقول (بريء) والبريء هو من لفظ ابراهيم في بناء عربي معقد قليل في استخداماتنا الفطرية الا ان الامساك به يؤتى من ابواب فطرية عربية اخرى فهو من (أبرأهم) فيكون الاكثر براءة ووزنها الصرفي (افعلهم) وظهور حرف الهاء في (فعل .. أفعل ... افعلهم) دليل فطرية عربية كما في (أبرأ .. أبرأهم) ومنه فأبراه الله في تكوينته فكان ابراهيم في الصفة التكوينية .
وقد وردت الفطرة نصا منفصلا في القرءان وترتبط بعقلانية المعتقد ربطا تكوينيا
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)
من فطرة العقل الانساني المطلقة ان الانسان لو ترك أي شيء خارج حيازته فهو يتعرض الى حيازة اخرى ... منها اللقط والضائعات فمن خرجت من حيازته حاجة او متاع وقعت في حيازة غيره بشكل تكويني
وعندما تكون فطرة الانسان غير مستغلة (ضائعة) فان استعمارها واستغلالها لاغراض اخرى فرعونية او تسلطية يمكن ان يكون رصدا خطيرا نتحدث عنه في هذه الاثارة التي تمتلك طابع التذكير بالفطرة لاحتضانها وعدم السماح باستعمارها من قبل الاخرين .
اهم انواع الفطرة المستعمرة في زمن معاصر هي ثلاث
1 ـ فطرة حب الارض
2 ـ فطرة حب الاهل
3 ـ فطرة حب المعتقد
ثلاث انواع من الفطرة التكوينية التي تبدأ مع براءة الانسان وتكبر معه فاول ما يعشق الانسان سريره ومهده الخاص وهو لا يزال بريء براءة الطفولة بحيث يكون مهده هو الوطن وهي بداية فطرة الوطنية
كما تبدأ فطرة البراءة الطفولية في حب الام والاب والاخوة في الدار وترى الطفل ينشرح مع اهله ويغتم ويستغرب من غيرهم فتبدأ فطرة القومية فيه من نبات برائته ..
وما ان تبدأ عملية الخروج من الطفولة حتى تبدأ فطرة العقيدة تطفو في شخصية الطفل فيتقمص عقيدة اهله بشكل فطري تبنى جذوره في فطرة خلق تكويني كما هي فطرة المكان وفطرة الاهل
ثلاث محاور فطرية شكلت اساسيات الصراع الانساني على مر عصوره المعروفة عند البشر من حضارته الاولى وكانت الصراعات لا تتعدى تلك المحاور الثلاث
استطاع المنظرون للدولة الحديثة منذ بدايات نجاح الثورة الفرنسية ان يجعلوا تلك المحاور مستعمرات لاهدافهم واستطاعوا ان ينظموا العالم بكامل قواه البشرية في منظومة استعمار العقول من خلال استعمار المحاور الفطرية الثلاث وعندما تقدم بهم المقام واستطاعوا ان يتمكنوا من ناصية الحكم في اوربا اطلقوا مستعمرة فطرية رابعة كانت الاخطر استعمارا واكثر هيمنة على الناس وهي فطرة التملك (شجرة الخلد وملك لايفنى) فاصبحت مستعمرات الفطرة الرئيسية اربع مستعمرات تحت مسميات معاصرة هي
1 ـ الوطنية
2 ـ العرقية
3 ـ العقائدية
4 ـ البنكنوت (العملة الورقية)
رغم ان المنظرين للدولة الحديثة هم انفسهم المسيطرون على الارض وشعوبها ورغم انهم حاربوا العقيدة ابان ثورتهم الا انهم هادنوا العقيدة بعد نجاحهم واقاموا الفاتيكان ليس حبا به وبالعقيدة بل لغرض استعمار فطرة الانسان العقائدية وتم استخدام تلك الفطرة العقائدية وكأنها مستعمرة تحت الطلب وليس مستعمرة اساسية ونرى مثل هذا الترشيد في يوغوسلافيا حيث تم استخدام الفطرة العقائدية في مرحلة بعيدة من مراحل نجاح الهيمنة الخفية على الشعوب ولعل البوسنة والهرسك وما يجري في الشيشان خير دليل على استخدام بطاقة الفطرة العقائدية في مراحل خاصة ترى تلك الفئة ضرورة استعمارها .. كما ان الفطرة العرقية نحت نفس المنحى ولكن باستعمارية اكثر استخداما من الاستعمار الفطري العقائدي حيث استخدمت العرقية منذ بدايات التوسع الاستعماري للانسان ولو عدنا قليلا سنجد ان تفتيت الدولة العقائدية الاسلامية قام على استعمارية فطرية عرقية في كل من (تركيا الفتاة) التي قادها كمال اتاتورك والعروبة التي قادها (الشريف حسين) في الحجاز والنعرة الفارسية التي قادها شاه ايران وهكذا كانت المسميات العرقية معولا هشم البنية العقائدية في دولة الاسلام ...
فطرة التملك (العملة) وفطرة (الوطنية) كانت اكثر استخداما في الفكر الاستعماري للعقل الانساني ولعل الرصد العميق لفكرة استعمار الفطرة يتحول الى راصدة تسلسلية تسلسل الهيمنة الاستعمارية لبراءة الانسان وفق المسلسل التالي في حجم استعمار فطرة الانسان
الاول : العملة الورقية
الثاني : الوطنية
الثالث : العرقية
الرابع : العقائدية
هذا المسلسل يسهم كثيرا في فهم حقيقة ذلك الاستعمار العقلي لصالح الطاغوت المهيمن على الارض (فرعون) وبالتالي فان مراصد الفكر الثاقبة تستطيع ان تضع لتلك الصيغ الاستعمارية برامجية في البراءة منها واعادة تحرير الفطرة من مستعمريها لاحتضان الانسان لبرائته وعندما يحتضن برائته تقوم آدميته الفطرية
العملة الورقية والبنكنوت المصرفي منح الانسان فرصة الحيازة اللامحدودة بحيث اصبحت الثروة سهلة الحيازة فالاولون ما كانوا يستطيعون حيازة ثروات سهلة بل (تنوء بمفاتحه اولوا القوة) كما جاء في وصف قارون اما اليوم فالحيازة للمال (شجرة الخلد) ما هي الا جرة قلم في توقيع سحري ليكون البنكنوت في خدمة الحائز لشراء مدينة باكملها ..!! انه الاستعمار الاوسع لفطرة الانسان الذي جعله فرعون مطية لاغراضه فالناس يسعون الى رزقهم في كل مكان ولكن رزقهم ما كان لحنطة او رز او ثوب بل اصبح الرزق (تبادلي) وهو العملة فاصبحوا كافرين وننصح مراجعة ادراجنا (الكفر ارجوزة القرءان ) حيث اصبح الرزق في مفهوم الناس هو الدنانير ومن الدنانير يأتي رزق الله فكان الكفر (مسك وسيلة تبادلية) وكانت الحيازة (الدنانير) شجرة ملك سهلة القطف اقسى استعمار لفطرة الانسان واخراجه من برائته التي فطرها الله عليها فاصبح الانسان خادم لفرعون مستعبد عنده يذبح الابناء ويتسحي النساء كما يشاء ويريد .
من خلال بحوثنا الفردية لاحظنا ان الطفل بفطرته يعرف النقود ويتعامل مع حيازتها بتفاعلية عالية رغم انه لا يعرف قيمتها ووجدنا من جانب اخر ان اخر ما يبقى في عقل الانسان عند المصابين بمرض (الشيزوفراينا) هو حب العملة وعند زيارتنا (مستشفى الأمراض العقلية)لاغراض بحثية ولمرات متعددة كنا نلاحظ قوة تلك الفطرة وشدتها عند (المبتلين بالأمراض العقلية) بشكل يلفت النظر ويقيم فكرا نطرح بعض لبناته بينكم فاكثر المجانين فقدوا كثيرا من عقلهم ولكن فطرة حيازة العملة بقيت في اوجها وعندما كنت اقدم لهم اشياء غير العملة كانوا يقبلوها بشغف بسيط ورغبة غير عالية وبعضهم يرفضها اما العملة فكانت الاكثر طلبا منهم ..!!
معالجات وعاء الفطرة وامكانية استعمارها تعتبر ضرورة قائمة في زمن معاصر جدا نرى بوضوح ان براءة الانسان مستعمرة بشكل حاد وخطير ..!!
منه هذه الضابطة الفكرية ان انضبطت ورسخت يقوم عند الانسان فكر التحرر من استعمار العقل قبل التفكير بتحرير الوطن او العقيدة ..!! فالعقل اولى بالتحرر من الارض لان الارض تتحرر بحرية العقل ولا يمكن تحرير الوطن والعقول مقيدة اسيرة وتلك بداهة عقل وحكمة انسان يعقل كل ما يجري بين يديه ...
ولهذه المنهجية تسلسلية معاكسة لتسلسية فرعون ويبدأ العقل العائد الى البراءة في تسلسل تفعيلي معاكس
الاول :
يقع في البراءة العقائدية ويحرر الانسان عقيدته من الاسر وينطلق فيها بفطرته التي اوصاه الله بها
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)
الثاني :
الفطرة العرقية وبتلك الفطرة تنضبط علائق الاهل بضابط فطري عقائدي لا يخيب في خدمة الاهل اعلى درجات الخدمة وتذوب العرقية في العقيدة ذوبانا فطريا
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214)
الثالث :
الفطرة الوطنية وهي ايضا تذوب في العقيدة وتخضع لقانونها بريئة غير مستعمرة
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الانبياء:105)
الرابعة :
العملة الورقية .. وهي ستسقط في وصفها القائم كــ (هدف) ... لتكون في وصف اخر كـ (ماسكة وسيلة) ... فالاستعمار الفطري حول العملة الى صفة (غاية) والعقيدة تصف العملة بصفة (ماسكة وسيلة) وبينهما فرق كبير لو رفعت الغشاوة عن العيون
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(التوبة: من الآية34)
من ذلك يتضح ان اخطر استعمار فطري هو استعمار العقيدة وعندما يتحرر الانسان في معتقده ويتجه لها اتجاه فطري (فاقم وجهك للدين حنيفا) فان فرعون لا يستطيع ان يستعمر الفطرة الانسانية ابدا .
تلك من الناشطات الفردية وليس الجماعية ويستطيع الانسان الفرد ان يتمسك بها ولا ينتظر قومه ان يكونون عليها لان الخطاب القرءاني (خارطة الخالق) تؤكد فردية ذلك النوع من نظم الخلق فجاء الخطاب (فأقم وجهك للدين) ولم يأتي (فأقيموا وجوهكم) وبالتالي فان من استعمرت فطرته لا يستطيع ان يعتذر من ربه لانه سار كما سار الناس من حوله لان الفطرة الانسانية موجودة في كل انسان وليس صفة تكتسب من احد فهي مربوطة ربطا تكوينيا مع المخلوق المسمى بالآدمية فردا وليس جماعة وكل انسان يمتلك فطرة خاصة به ولا يستطيع ان يتشدق بما ذهب عليه الناس ويكون حجة له فالله له الحجة البالغة ...
تلك ذكرى عسى ان تنفع الذكرى
الحاج عبود الخالدي
تعليق