الانسان والنظريات الآحادية
عنوان اخترنه لجزء من مقال في كتاب (( المذهبية الاسلامية والتغيير الحضاري ))
((....والوضعية التي نادى بها "أوجست كونت " الفرنسي، عدّت الإنسان كائناً يستطيع أن يُشكِّل قيمه بنفسه، ويحولها إلى دين وضعي، يضبط حركته الاجتماعية، ولا حاجة بعد إلى الأديان والقيم القديمة في زعمه. ثم زهر بعد قرن كامل من الصراع والتجربة أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد القيم المجردة عن المصالح، لأن حب الإنسان لمصلحته، موجهاً من جانبه الحيواني حال بينه وبين فهم الإنسان من حيث معناه وشموليته، ومعنه من إيجاد تلك القيم المجردة التي تعبر عن المعنى الشامل لإنسانيته.
والماركسية جردت الإنسان من شموليته وجعلته سلوكاً متغيراً في ضوء تغير أدوات الإنتاج، مجبراً على ذلك السلوك مسلوب الإرادة، فحصرت شموليته الإنسانية في العامل الاقتصادي، ثم أثبتت التجارب الواقعية والإحصاءات الدقيقة في الدراسات الحديثة أن سلوك الإنسان لا يمكن أن يفسره عامل واحد. لأن تفسير سلوكه وتطور حياته بعامل واحد يعني فصمه عن كيانه الإنساني الشامل وفي ذلك انحرافه وأزماته وشقاؤه.
والداروينية نظرت إلى الإنسان من زاوية حيوانية انطلاقاً من التشابه الظاهري في القانون الواحد الذي خلق الله تعالى به الإنسان وسائر الحيوانات. ناسية مساحة الاختلاف والتنافر التي تجدها شمولية شخصية الإنسان لجانبه الحيواني البحت وجانبه الإنساني الفكري والشعوري، فأثرت وجهة نظرها الاحتمالية تأثيراً كبيراً في إنكار ثبات الصفات الخلقيّة والإنسانية القيمية، وانتهت إلى اعتبار الإنسان حيواناً اجتماعياً متطورا، لا ضوابط لتغييره إلا في إطار تكوينه الحيواني.
وأما الفرويدية فقد نظرت إلى الإنسان في ضوء حيوانية الإنسان الداروينية، فانتهت إلى أن الجنس هو أساس حركة الإنسان وسلوكه. فلا بد أن يطلق منهج التغيير في زعمه، هذا الدافع حتى يأخذ مجراه الطبيعي.
وكان من نتائج الفرويدية تحطيم الأسرة وضوابطها، من خلال الفوضى الجنسية العارمة التي نفذت إلى كل جزئية من جزئيات الحياة الاجتماعية في الحضارة الحديثة، ومن خلال الانحرافات المتلاحقة التي شببت أمراضاً نفسية وجنسية خطيرة ومعقدة في المجتمعات الغربية، وانتقلت جراثيمها بدرجات متفاوتة إلى المجتمعات الأخرى في العالم كله.
وأما المذهب النفعي فقد شارك المذاهب الأخرى في التفسير الأحادي ونظر إلى الإنسان من خلال غريزته الذاتية المصلحية التي تحقق له أكبر نفع ممكن. فمقياس الحق مرهون عند "جون ديوي " وأرباب هذه النظرية بمدى تحقق المصلحة، وهي غير منضبطة بضوابط القيم الثابتة العادلة عندهم.
ومن هنا فمنهج التغيير النفعي "البراجماتي " انتهى إلى التخلخل الخطير في الحياة الاجتماعية في المجتمع خاصة، لأنه رأى الحق في تحقق المصلحة بمعزل عن اليم الروحية ومبادئ الحق والعدل المجردين في تاريخ الفكر الإنساني.
وكانت خاتمة المطاف في سلسلة النظرات الأحادية المجزِّئةِ لكيان الإنسان ، النظرة الوجودية "السارترية " التي أنكرت كسابقاتها وجود الإله، لينصب الإنسان نفسه مكانه بدعوى إثبات وجوده، وتحقيق حريته، بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه وتوجيه الفلسفات العقلية وضغط العادات والتقاليد.
وقادت الوجودية جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حالة يائسة من القلق والضياع والسلبية في الحياة والحرية غير المضبطة والفوضى الاجتماعية (23).)) انتهى
تعليق