تبادل الأحزان وطبيعة الإنسان
العقلانية الانسانية تحمل في رحمها حارات عقلانية تسكن فيها صفات الوجدان والخاطر والحزن والسعادة والقلق والحب والكره وكثير غيرها وهي وان كانت من ظواهر عقل مختص بالانسان مدركة بفطرة العقل الانساني الا ان علماء النفس التجريبي يخلطون بين عقلانية الانسان المتفردة بخصوصيته كمخلوق وبين سلوكية الحيوان وكثيرا من علماء النفس التجريبي يستخدمون سلوكية الحيوان كمؤشر لقرءاة العقل الانساني ومع ذلك الخلط غير الموفق الا ان علماء النفس التجريبي الذين امعنوا كثيرا في سلوكية الحيوان لم يحددوا صفات مطابقة للعقل الانساني في الحزن والسعادة والخواطر وغيرها مع سلوكية الحيوان رغم ان بعض العلماء يحاولون وصف بعض التصرفات الحيوانية بصفتها الانسانية مثل صفة (العدوانية) التي تظهر في بعض اصناف الحيوانات ولكن العلماء لم يستطيعوا ان يطابقوا الصفة العدوانية عند الانسان والحيوان من حيث السبب فعدوانية الانسان تمتلك سببا في العدوان وعدوانية الحيوان غرائزية وهي بلا سبب كما لوحظ ان نزعة الدفاع الذاتي عند الحيوان غرائزية وعند الانسان سببية حيث نلاحظ نزعة الدفاع عند الانسان تكون متوقفة عند تنفيذ احكام الاعدام او عند معاقبة الكبير للصغير .
انتقال الحزن من انسان الى انسان ظاهرة من الظواهر المعروفة عند البشر وتظهر في تصرفات العزاء والمواسات بين الناس في تبادلية الاحزان بينهم وتتوائم المشاعر الحزينة بين الناس وفق قنوات رابطة تربط مشاعر الحزن من اساس عرقي او عقائدي او فئوي ولكن كثيرا من مناقلة الحزن تجري بين غرباء لا يمتلكون روابط مسبقة في عرق او دين او فئوية جامعة بل تطفو مشاعر انسانية محض ... تلك الظاهرة ليس لها وجود في المخلوقات الاخرى وقد تخلو غرائزية الحيوان من أي نزعة للحزن ذلك لان الحزن هو نتاج عقلاني مسبب والانسان هو المخلوق المالك للعقل المنتج والحيوان يملك عقلا مبرمجا غرائزيا مما يجعل الانسان سيد المخلوقات التي تعيش معه في الارض .
تبادلية هموم الاحزان تعتبر مؤشر مهم وخطير يبرز آدمية الآدميين ويجعل من آدميتهم صفة ايجابية عندما تتوائم مشاعر الحزن لدى البشر ..!!
عند مراجعة التاريخ والامعان في كثير من الصفات المجتمعية التاريخية تظهر مؤشرات تراجعية في حضارة الانسان وتطفو بشكل خطير بحيث نستطيع ادراك التطور الحضاري التقني وكأنه يشطب الكثير من الصفات الانسانية ولعلنا لا نخطيء التقديرات عندما نراقب المجتمعات المعاصرة فنجد ان تبادلية الاحزان في المجتمعات الفائقة التحضر تنحس ربوضوح مقارنة بما ندركه في المجتمعات الاقل تحضرا بحيث نستطيع ان نضع للفوارق المجتمعية القديمة والحديثة فوارق تراجعية ترتبط بحضارة الانسان ونستطيع وضع مؤشر طردي بين آدمية الآدميين وحضارتهم فكلما توسعت الانشطة الحضارية كلما انحسرت صفات آدمية معروفة وراسخة منذ القدم ولعل الامعان بهذه الظاهرة يكشف لنا مسبباتها وقد تتحول الى يقين فكري من خلال دقة المراقبة للعلائق المجتمعية التي تحللت بشكل خطير في المجتمعات الحضارية ولعل نواظيرنا تتجه صوب البدايات عندما نرى ضمور الرضاعة الطبيعية واستبدالها بالرضاعة الصناعية عبر قناني الرضاعة باستخدام الحليب المجفف وهي اول رابطة طبيعية بين الام ووليدها نرى تحللها وندير دفة الناظور لنرى ان الآلة الحديثة والمكننة قامت بقطع الروابط بين عناصر المجتمع وفق منهجية حرفياتهم التي بنيت طبيعيا على تبادل الحاجات الحرفية فالنجار كان يعيش وسط حارته ويمنح مجتمعه خدمة مباشرة اما اليوم فهو غائب عن الناس مع ماكنته المصنعية ليقدم سلعياته الى المجتمع عن بعد وبالتالي فانه يعمل بمعزل عن مرابطه بقومه من خلال حرفته ومثله اللبان والخياط والحداد وصانع الاحذية فاصبحت العلائق المجتمعية في العالم المتحضر سطحية لا تمتلك وشائجها الموضوعية حيث مزقت الالة كل تلك الروابط وعندما يصطدم ناظورنا الراصد الى جهاز التلفون حيث سيرى بوضوح اختفاء رابط اجتماع العيون الاربع التي كان يتحادث بها الناس طبيعيا فكانت تلتقي عيونهم في كل حديث يجري ولاي شأن اما الهاتف اصبح يحجب تلك النكهة المباشرة بين انسان وانسان واصبحت الوجوه البشرية مقنعة بالتلفون فافقدت الانسان روابط آدميته بين وجه المتكلم والوجه الاخر ولعل ابسط مقومات المدرك العقلي ما يعرفه الآدميون فيما بينهم (لغة الوجوه) التي تعبر سقف الكلام وتمتد الى اعماق العقل البشري المميز عن الحيوان بصفات وجدانية عالية لتألق وبعد سقف حضاري احدث من الهاتف ففي تقنية الشبكة الدولية انقطعت رابطة سمع الصوت ايضا من خلال شبكة الاتصالات الدولية فاصبح المتخاطب بالنت لا يسمع حتى صوت محدثه ولا يرى خط يده بل يتعامل مع حروف تقنية تصنعها مؤثرات الكترونية وماتت الرابطة الطبيعية حتى في سماع الصوت عبر الهاتف وفقد الانسان المعاصر روابط تكوين ربطته منذ الازل ومنه وفيها مجسات عقل حين يعرف المتحدثان كثيرا من الامور التي تحملها العيون وسحنات الوجه ولحن القول فضاعت جميعها في مستحدثات اتصال اثرت بشكل كبير على علاقة الانسان بالانسان .
ضمور تبادلية المشاعر الانسانية في المجتمعات بين مجتمع سكان البناية الواحدة صعودا الى تجمعات الحي فالمدينة فالوطن ومن ثم العالم باسره ينذر بخطر كبير وازمة انسانية تتصاعد بشدة وعنف يمكن ان تحول الانسان بعد بضعة اجيال الى مخلوق لا يطيق الاخر وبالتالي فان عدوانية الانسان للانسان سوف تطغى بشكل فعال ولها مؤشرات خطرة في عالمنا المعاصر حيث تؤكد بعض التقارير الوثائقية ضياع كامل في مجتمعات في امريكا اللاتينية وغيرها دون ان يكون هنلك ازمة سياسية او عقائدية او طائفية عرقية بل لمجرد انسان لا يطيق الاخر ومثل تلك الظاهرة موجودة في مجتمعات بالغة التحضر كما يقولون في امريكا وبريطانيا وغيرها مما يشير الى انفلات اخلاقي اخطر من الخطير ويوم يغرق الانسان بعدوانيته فان الالة التقنية لن تكون إلها ينجيه من حجم الكارثة
تبادل الاحزان هي ظاهرة انسانية تمثل اعلى مؤشر يؤشر في آدمية الآدميين وترابطهم وبمراقبة تدهورها المطرد نرقب الحدث الاكبر في تدهور بيئي مجتمعي اخلاقي الصفة وليس مادي المؤثرات كما في الاحتباس الحراري ... قائمة الحلول خالية من أي حل ذلك لان الدولة الحديثة تمتلك اليوم سلطوية الإله ولا يمكن لفكر متجدد ان يفعل فعله او ان يؤثر في تحسين مسيرة انسان انغمس بمزيد من الاخطاء البراقة فضاعت عليه فرصة المستقبل الوديع وزخرف الدنيا سيكون سبب دمارها.
الحاج عبود الخالدي
تعليق