أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (الزمر:19)
ثقافة المسلمين أحكمت مقاصدها في (النار) على إنها (نار الطبخ والصهر) التي نعرفها كما أحكم المسلمون مفاهيمهم أن النار هي عدة معـَدّة بعد يوم الحساب وكلما جاء لفظ النار مقرونا بالعذاب او العقاب ذهبت مقاصد الناس الى ما بعد يوم الحساب ... إذا عرفنا مقاصد الله في النار وعرفنا مقاصدنا فيها وربطناها (قرن) مع مقاصد الله في العذاب فإن الفهم العقائدي سوف يكون متطابقا مع الخطاب القرءاني وهي صفة يحبو اليها المسلمين فرادى ومجتمعين ..
النار : كما نعرفها في حياتنا ويومياتنا فهي في اوليات العقل في الوصف :
النار وسيلة تكوينية : وتلك صفتها فالرمال لا تقيم نارا وقيام النار لها ثوابت فيزيائية لا تقبل الخرق والتعديل يسميها اهل الفيزياء (درجة الاتقاد) وهي الدرجة التي تشتعل بها المادة كالخشب والزيت وغيره ولكل مادة درجة اتقاد خاصة بها ولكل مادة مكونات تكوينية تسمح بكون المادة تتحول الى (نار) أو لا تشتعل وذلك من خلال قدرة عناصر المادة التركيبية على الاتحاد مع الاوكسجين كضرورة تكوين بفعل الحرارة ويعتبر عنصر الكاربون ومركباته مهما في المركبات المادية القابلة للاشتعال وكل تلك الصفات هي تكوينية وهي اساس قيام النار (وسيلة) خلقها الله وليس بشر وبموجب نص تذكيري بالغ الحكمة
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) (الواقعة:72)
النار ناقل فعال : وهي صفة مركزية في وسيلة النار التي نعرفها فهي تنقل مكونات المادة من حالة تركيبية الى حالة تركيبية اخرى فهي تفرق مرابط الصفات وتعيد ربط بعض الصفات مرة اخرى ولعل المختصين بالفيزياء يتعاملون مع هذه البيانات بصفة مباديء لموصوفات الفعل الفيزيائي والكيميائي للنار فهي تنقل الكاربون وكثير من المواد الصلبة الاخرى من الحالة الصلبة الى الحالة الغازية وكثيرة كثيرة هي افعال النار التي تتصف بصفة التناقل واو ضحها الحرارة والضوء (ضوء اللهب) وغيرها من الموصوفات الكثيرة التي تقع تحت صفة (النار ناقل فعال) .
النار صفة تناقلية تبادلية : وهي واضحة في تبادلية حرارية ومادية حيث تقوم النار بتبادل حراري معروف تحت قوانين مشهورة أي نقل الحرارة (الحرارة المكتسبة تساوي الحرارة المفقودة) كما تقوم النار بفاعلية تبادلية ناقلة في اواصر مكونات المادة فالنار تحلل روابط بعض المواد (مفرقة الصفات) كتحرير الاوكسجين من اكاسيده او تبخير الماء وتقوم ايضا بتوفير فرصة الترابط المادي كما يحصل في اتحاد الاوكسجين والكاربون لقيام تركيب ثاني اوكسيد الكاربون فصفة النار تكون تبادلية المناقلة . ذلك يعني أن تكوينة النار لا تكون بخصوصيتها هي كوعاء ناري بل يتبادل الوعاء الناري صفاته مع محيطه فتكون النار للطبخ او صهر المعادن او لتخليص الفلزات من اكاسيدها وهكذا نرى ان فعل النار تبادلي بين وعائها كنار ومحيطها الذي أججت النار من أجله
من تلك الصفات التي تقرأها الفطرة العقلانية باستخدام معايير علمية يمكن ان تكون صفة النار في فهم أولي (تأويل) فيكون لفظ النار يعني في المقاصد انها :
وسيلة تكوينية للنقل الفعال تبادليا
نجرب ذلك النتاج العقلاني في مختبر العقل في المثل التالي :
نار الفتنة : هي وسيلة تكوينية للعداء
(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)(البقرة: من الآية36)
ونرى ذلك بوضوح عندما نرصد الحيوان والنبات فتلك المخلوقات لا فتنة بينها لان العداء (نتاج الفتنة) غير موجود فيها تكوينا خلقيا ..!! وتنطبق نفس الصفات الواردة في الفيزياء للنار على نار الفتنة فهي تمتلك تفكيك روابط مجتمعية او قوميه او اسريه (فتنة) وتمتلك صفة نقل فعال بحيث تنتقل السمجات القديمة لتطفو في حاضرها مثل (اباك قتل ابي) كما تنتقل فاعليتها الى المستقبل مثل(لا ءأمنك على غدي ومصالحي) وهكذا تكون فاعلية الانتقال لعناصر الفتنة حيث تنتقل بشكل فعال من الماضي الى الحاضر ومن المستقبل الى الحاضر ... وهي تمتلك الصفة التبادلية فمثلا يكون (كما قتلت ابي فاني اقتل اباك ) وهكذ يتبادل اطراف الفتنة الفاعليات التناقلية ومنها الاتهامات بينهم فتكون (نار الفتنة) ..
عذاب النار ... هو ما يجنيه صاحب النار (اصحاب النار) وهو تحصيل متحصل من نتيجة افعال اولئك المعذبون بالنار لسوء فعالهم وهو رشاد فكري ثابت عند المسلمين في ان عذاب النار هو (نتيجة) لما قام به المعذبون من افعال فكانت النار بصفتها عذاب لهم والقرءان يذكرنا ويجبر عقولنا على فهم النار في أوليات المقاصد وأن لا نقتصر مفاهيمنا للنار الفيزيائية التي نراها في يومياتنا ومع القرءان مذكر
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:174)
نار وعذاب في نص شريف ونار تؤكل ولو رصدنا النار الفيزيائية فهي لا تؤكل فيندفع العقل الى الذكرى الزاما والا فان العقل لا يعقل ..!! ... ولزيادة دائرة الوسعة للمقاصد الشريفة نرى لفظ (عذاب) في القرءان
عذب ... عذاب ...
تلك مفارقة عربية مهمة في اللسان العربي المبين وفيها تحدي كبير للعقل الباحث في منهجية اللسان العربي المبين ...
(هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ)(فاطر: من الآية12)
العذب في مقاصد ممدوحة (سائغ شرابه) والعذاب في مقاصد مقدوحة ولسوف نرى تلك الفارقة المثيرة عسى ان تكون بطاقة دعوة جادة لاحتضان اللسان العربي المبين في العقل بدلا من استعارة الالفاظ بمقاصدها دون ان ترتبط بالعقل عند نشأتها وتكوينها في المقاصد وفي تلك سلمة مرتفعة للتعامل مع القرءان بوسيلته التكوينية التي اودعها الله فيه بـ (لسان عربي مبين)
شرب .. شراب .. سرب .. سراب ... تلك الفاظ مبنية على شاكلة (عذب عذاب) وعند تحليلها في العقل وصولا الى اوليات المقاصد (تأويل) يكون اللفظ العربي في نشأة التكوين (أولي) ومنه يقوم البيان عند قيام المقاصد عند ترابط الحروف فيما بينها ومعنا فطرة انسان مفطورة في العقل الانساني في سنة الخلق .
انضباط الفطرة سيكون من قرءان عندما نقرأ فيه
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) (الفرقان:53)
في هذا النص الشريف تأكيد كينوني الى إن (العذوبة) و (الملح المتأين ـ أجاج) هي نتيجة لفعل (المرج) بين البحرين وتلك النتيجة جاءت في (هذا وهذا) من خلال عملية المرج غير المعروفة علميا والتي يفتح القرءان مفتاحها التكويني عندما يكون للقرءان علماء يبحثون عن العلم فيه ...
العذب نتيجة من فعل تكويني ... العذاب هو نتيجة ايضا لفعل تكويني وضعه الله كعقوبة للمخالفين على دلالة مقاصد (عذاب) بين عذب وعذاب نرى شرب وشراب فان الشرب صفة يمكن ان تتفعل عند (الشارب) مثل (رسم .. رسام) فعندما تتفعل صفة الـ (رسم) عند احدهم يكون (رسام) ومثلها عندما تتفعل النتيجة التكوينية في (عذب) عند احدهم تكون (عذاب) ... الرمل لا يمكن أن يكون (شراب) ذلك لان الرمل لن يكون نتيجة لفعل تكويني مثلها في الرسم فالحيوان لا يمتلك صفة الرسم تكوينيا فلا يمكن ان يكون (رسام) وبذلم نفهم (العذاب) انها صفة تكوينية (نتيجة تكوينية لفعل) عندما تتحقق تكون عذاب .. ذلك ما ورد في النص (سائغ شرابه) فهو يتحول الى (شراب) تحت نتيجة (عذب) والماء المالح لا يمكن شرابه ... اذن العذاب هو نتيجة فعل المعذب وهي مدارك عقلانية راسخة بين الناس الا إن كثيرا من الناس يتعاطفون مع من هو في العذاب شفقة منهم عليه فيضعون له مبررات كثيرة منها (سوء الحظ) او (سوء الطالع) او ( مساويء الصدفة) او (ظلم ظالم) حتى ضاعت صفة العذاب بين الناس واختفت حكومة الله في حياتنا وتم نقلها بغفلة شديدة الى يوم الحساب والتساؤل الفطري الكبير لماذ يتم تأجيل (يوم الحساب) الى ما بعد الموت كليا وكأن الدنيا سائبة ليس فيها رب يثيب فيها ويعاقب مخالفها
(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل:69)
هنا في هذا النص (دنيا) وليس بعد الموت وعلينا ان نسير ونرى عقوبة (عاقبة) كل مجرم اجرم في هذه الارض ونرى حكم الله النافذ فيه (ما كتب عليه) و (ما كتب له) وهو في الوعاء التنفيذي لسنن الخلق (كتاب) من حياة (طيبة) كما وعد الصالحين او حياة (عذاب) كما وعد غيرهم (المجرمين)
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)
افبعد هذا الوعد نرى من هو في عذاب دنيا ونريد له أن يفلت من العذاب
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (الزمر:19)
وعلينا بعد تلك الرحلة الفكرية الشاقة لنضع للعذاب معايير تفصله عن كثير من الموصوفات في الحياة الانسانية فنرصد آلام الولادة عند الام فهي ليست بعذاب ونرصد جروح المجاهد في سبيل الله فهي ليست بعذاب وذلك لاننا نتخذ دائما من المقدوح عقلا صفة سالبة واكبر شيء مقدوح عقلا هو الموت ولكنه حق واوضح الاشياء مقدوحة عقلا هو الجوع الا إن الصيام جوع لا يمكن تعييره بمعايير العذاب وهنا تقوم همة فكرية تبحث عن معايير العذاب من قرءان يقرأ ولمن يستمر بمتابعة اثاراتنا التذكيرية سيرى باذن الله معالجات اكثر عمقا لمعايير العذاب وفصله عن متشابهات العذاب ليكون للعقل حضورا في قرءان يقرأ في زمن معاصر من اجل يوم اسلامي افضل
اذا عرفنا معايير العذاب واصبح المؤمن قادرا على فرز (المعذب) من خلال (عذابه) فان كثيرا من الافكار الوردية تسقط في العقل وتتحول الى رماد اسود (أفأنت تنقذ من في النار) .. فيكون للويل قيام في عقل المؤمن الساعي لانقاذ من هو في نار الهية تعذبه سواء كان ابنه كأبن نوح عليه السلام او كانت زوجته كزوجة لوط عليه السلام او كان اخوه كإخوة يوسف عليه السلام ... فمن جعله الله في عذاب النار فلا يمكن انقاذه والمنقذ سيكتوي بتلك النار كما جاء فيها نص واضح
(مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (النساء:85)
فمن يريد أن ينقذ معذبا يعذبه الله في النار انما يشفع شفاعة سيئة وله كفل منها وتلك عتبة فكرية غاية في الخطورة فعبورها صعب ومراسها صعب خصوصا عندما يرى المؤمن إن من يتعذب في نار امامه هو قريب كأبن نوح ..!!
تلك العتبة تقع في مضامين (التقوى) فالمتقين هم الذين يتقون غضبة الله مثل من يتقي ضربة السيف بدرع سميك فكيف بهم وهم يتصورون انهم يحسنون صنعا
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104)
الناس جميعا يخفون الحقائق التي تطعن بنشاطهم فما من معذب يعترف بذنبه للناس ليقول لهم إن ما هو فيه من عذاب انما هو من ذنب اذنبته بل يخاتل و يخفي ويسترحم الناس ... وقرءان مهجور ... فضاع الضلال عبر الاجيال حتى وصلنا القرءان ولا نفهم ما فيه الا من خلال ما (قالوا لنا) أما قلوبنا فقد اقفلت .. عسى ان يكون لاقفال القلوب مفاتيح معاصرة لم تصدأ بطول الأمد .. !!
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16)
(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (المزمل:19)
الحاج عبود الخالدي
تعليق