{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) } سورة القارعة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
هذا البحث مطروح للنقاش ونستمع إلى ما يملى علينا منكم والدي الكريم والأخوة الكرام الأفاضل.
بناءا على الحوار المدار في حوارية اليوم المشهود لكاتبه الأخ الفاضل سوران رسول وما تمخض عن ذلك الحوار في ما مقاصد الله سبحانه وتعالى لموضوعية الأم في إهلاك أهل القرى المثار من قبل حضرة الإشراف العام المحترم. فارتأينا أن نفرد موضوعا خاصا به لغرض دراسته والتحاور فيه ومن الله التوفيق.
(أم) تعني مشغلا تكوينيا سواء كان ذلك كما نلمسه حقا في الأم الحنون وما لها من وسيلة حاكمة في الحمل والوضع والرضع - فهي تشغل تكوينة خلق الله تعالى- أو يكون ذلك في أم الأشياء كمثلا القول البدلة أم الأزرار الزرقاء باللغة الدارجة والمقصود بها باللغة الفصحى البدلة ذات الأزرار الزرقاء. فالأم حملت معنى الذات بما تحكمه من صفة الشيء لكونها المشغل التكويني للشيء. وكذلك القول مثلا البذرة الأم بمعنى البذرة الأصلية أو الرئيسية أو الخام التي أحكمت صفة البذور الناشئة عنها من حيث الشكل و الإنتاج.
في قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (7) سورة آل عمران
الآيات المحكمات هن (أم الكتاب) بمعنى إن محكمة الآيات تكوّن أم الكتاب. وذلك ما نلمسه حقا في محاكم القضاء - من حيث المنهجية لا من حيث التشريع - ففيها نجد المشتبه به نتيجة تهم عليه متشابهات ومن ثم يكون هنالك التحقيق في تلك المتشابهات للحصول على المحكمات فيكون للقاضي كتابا يحكم به فيكون كتاب الحكم بمثابة أم كتاب المحكوم.
وفي قوله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} (45) سورة يوسف
وهنا نلمس المقصود في (بعد أمة) من خلال قرن الفهم في الآيات المتشابهات والآيات المحكمات فهو قد نجى بعد حصوله على حكم يقضي ببراءته وذلك الحكم كان بعد حاوية لفاعلية (أم) في رد المتشابهات عليه من خلال المحكمات عليه.
وفي قوله تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (120) سورة النحل
فإبراهيم (ع) إحتكم بنفسه لنفسه كي ينجو فكان إمام للناس فهو الذي إشتبه بنفسه في عبوديتها وأخضع نفسه إلى محكمة الآيات في رؤياه للكوكب كي يكون ربه أو للقمر أو للشمس حتى إنه أحكم أحقية العبادة لمالك حاوية تلك المعبودات المشتبه بها (السموات والأرض) وهو فاطرهما فكان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين فما أشرك من أحد خارج ملكة وجوده في تحكيمه لتلك المحكمة الفكرية في قلبه فوفاه الله حسابه والله سريع الحساب.
كل إنسان له أم عقلية قد تكون لها تأثير في حياته بشكل إيجابي فيكون هو في عيشة راضية. وقد يكون تأثير تلك الأم في الإنسان بشكل سلبي فتكون أم هاوية فهو في عيشة ضنكة. وتلك الأم هي بمثابة محكمة كتابه الذي يؤتى به يوم القيامة فهي مؤهله (أهله) لملاقاة الله تبارك وتعالى.
ظاهر الإنسان هو من أهل القرى وقراه الظاهرة التي يبدو بها قائما بيننا والتي تخضع لثواب الدنيا وعقابها ومن بعدها جزاء الآخرة وهناك قراه الخفية وهناك ما حولها.
أما قراه الخفية جاء ذكرها في القرءان الكريم تحت تسميات ذات دلالة كما في قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) } سورة الحشر
{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} (14) سورة الحشر.
أما ما حول تلك القرى فهي مباركة من الله تعالى في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10) } سورة الحشر
ومن ذلك نستبين ولله العلم والحكمة في الأمر إن أم القرى هي تلك المحصنة (المخفية) التي لم يكتب الله لها الجلاء في الدنيا وهي تكون ظل القرى الظاهرة في الدنيا وأهلها في حسنها و سوءها وهي التي تكون شاهدة على سوءها وعن حسنها فهي أهل الكتاب (مؤهلة الكتاب) وهي (أم الكتاب) الذي يحتكم فيه الإنسان يومئذ وكفى بنفسه على نفسه حسيب.
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} سورة الإسراء
{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (131) سورة الأنعام
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (117) سورة هود
وما كان لأهل القرى المانعتهم حصونهم غفلة عن رسل الله إليهم وسيشهدون بها إلا إنها قد تكون أم هاوية في صلتها بأهلها الظاهرة فالقرى الظاهرة هم عن ذلك غافلون.
وما كان الله ليهلك القرى وأهلها (القرى الخفية) ما زالوا مصلحون ولن يهلكوا ما داموا هم كذلك إلا إن القرى الظاهرة منهم قد يصيبهم العذاب لكونهم لم يكونوا إياهم يصلحون.
هذا البحث من بين يديه ومن خلفه - نسخ آيات ونسيان آيات حتى يأتينا الله تبارك وتعالى بأحسن منه أو بمثله.
وقل ربي زدني علما.
وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تعليق