الحقيقة أغرب من الخيال
الحقيقة أغرب من الخيال وكل ما سأكتبه في هذه السطور هو من الخيال الذي قد يبدو بعضه أنه ليس منه ولكنه فعلا مجرد خيال
كيف بدأت قصة آدم وذريته على هذه الأرض؟
سأبدء بخيالاتي من نهاية القصة لأعود بها لبدايتها ثم أمر سريعا على ما بينهما
المكان: هنا
الزمان: الآن
أجلس وحيدا والأفكار حول نهاية الزمان وفناء المكان تتلاعب برأسي، هل يمكن أن يحدث ذلك؟
وهل يمكن أن ينتهي كل شيء بكل هذه البساطة؟
كلا كلا، هذا من غير المرجّح أبدا أن يكون، فلا بد أن تكون هناك بداية أخرى بعد النهاية التي يتكلم الجميع عنها، فكل نهاية هي بداية جديدة،
ولكن كيف يمكن لذلك أن يكون؟
كيف من الممكن أن تكون النهاية هي البداية؟
لا بد أن أتخيل نهاية تصح أن تكون بداية، حتى ولو كان ذلك الخيال مجرد خيال لا واقع حقيقي له على الإطلاق
يجب أن يكون خيالي وتخيلي للنهاية الموصلة للبداية غريب بشكل كبير لأن الحقيقة هي أكبر وأغرب منه بمراحل، فكيف يمكن لعقل قاصر أن يتصوّر لحقيقة ما يمكن للعقل الكامل القادر أن يفعله، بالتأكيد لن يمكنه ذلك أبدا أبدا، ولكن بالخيال يمكنك أن تتصور كيف يستطيع العقل الكامل القادر أن يفعل ما لا يمكنك أن تفعله كعقل ناقص ضعيف
يمكنك عبر قناة الخيال أن تتخيل كوكبا لا تأثير للجاذبية به أبدا، ومخلوقاته تطير متى شائت وتستقر متى تشاء
يمكنك أن تتخيل أن الصمت يلف هذا الكوكب رغم امتلائه بالمخلوقات وذلك لأن مخلوقاته تسمع ما تشاء متى تشاء، أنها تسمع بالاذن الداخلية بطريقة يمكنك أن تسميها بتوارد الخواطر، في هذا الكوكب أنت لا تحتاج الى تلفون ولا الى جهاز سلكي أو لا سلكي، وإذا ما أردت أن تحادث أحد من الناس يكفي أن تفكر به وهو بدوره يسمعك فإن كان مشغول أجّلك لما بعد وإذا ما رغب بمحادثتك بادلك حينها الخواطر بخواطر أخرى
في هذا الكوكب أنت لا تحتاج الى سيّارة أو طيارة لكي تنتقل من مكان الى مكان، ويكفي أن تشاء وتريد أن تنتقل لمكان ما لتنتقل من فورك وقبل أن يرتد اليك طرفك الى حيث ما شئت الانتقال
وفي هذا الكوكب يمكنك أن ترى من تحبهم وتشاء رؤيتهم بمجرد أن تشاء ذلك فتتمثل صورهم بعقلك أو على كفّ يدك كيفما وأينما كانوا
وفي هذا الكوكب لا توجد ضغائن أو نزاعات أو أدنى صور الغلّ في القلوب، لأن المال فقد قيمته فلا الذهب ولا الفضة ولا الألماس ولا الأوراق النقدية لها أي قيمة تذكر
فأهل هذا الكوكب يمكنهم الحصول على ما يريدون بمجرد أن يريدوه ليتمثل أمامهم من فوره، وليس فرد واحد منهم يستطيع ذلك ولا مجرد فردين أو ثلاثة أو أمة واحدة منه فقط تستطيع ذلك، بل كل أفراد هذا الكوكب يستطيعون ذلك وبكل سهولة ويسر
في هذا الكوكب لا يحتاج أحد من أفراده لأن يعمل أو يكد ويتعب لكي يعيش ويأكل ويشرب بل حتى أن أغلبهم قرر أن يأخذ غذائه مباشرة من الشمس نقيا صافيا قبل أن يختلط بتراب الارض ويتحول لصور مختلفة من المعادن والفيتامينات والمواد الغذائية ولمختلف الأطعمة والروائح
وقرر أن يأخذ الماء مباشرة من الهواء مع كل نفس يتنفسه وقبل أن يتكثّف ويصبح سائلا غليظا، فأهل هذا الكوكب لا يأكلون ويشربون كما نأكل نحن اليوم ونشرب ولكنهم رغم ذلك يحصلون على أجمل الروائح وأطيب المذاقات مباشرة من الشمس والهواء فأعضاء بدنهم الذي أصبح رهيفا متصلة اتصال مباشر مع وعيهم وارادتهم وتعمل على تلبية رغباتهم كيفما رغبو بها
فإذا رغبوا بطعم فاكهة العنب أو التفاح أو الرمان أو غير ذلك، إستخلصت أبدانهم تلك الأطعمة مباشرة من الشمس والهواء وأذاقتهم إيّاها وأمدّتهم بها من فورها، فكل تلك المذاقات والروائح وأنواع الطاقة هي موجودة فعلا من حولهم بأشعة الشمس والهواء والفضاء وكان دور الارض فيما سبق هو فقط أنها هي من تستخلصها من الشمس والهواء وتفصلها عن بعضها البعض وتركبها وتجعلها بصور فواكه وأطعمة وزروع مختلفة،
ولكن أهل هذا الكوكب تعلموا أخيرا كيف يمكنهم أن يستغنوا عن هذا الدور للأرض في استخلاص تلك الاطعمة والطاقة وفصلها عن بعضها البعض وتركيبها بصور فواكه وزروع مختلفة، وأصبحوا هم وكل واحد منهم يستخلصونها بأنفسهم وبإرادتهم ومشيئتهم مباشرة من الشمس والفضاء بدون الحاجة لدور الأرض أو للزراعة ثم الصناعة بعد ذلك
لقد أصبح أهل هذا الكوكب في شباب دائم لا يشيخون ولا يهرمون ولا يموتون، وهم لا يمرضون أيضا، ولو مرضوا فإن كل الادوية موجودة من حولهم هنا وفي هذه اللحظة في أشعة الشمس والهواء والفضاء وأبدانهم تعلمت أن تتصل بالكون من حولها لتأخذ منه ما تريد
إن تاريخ هذا الكوكب كان فيما سبق مر ومرير ومريع، كانت الحروب تملؤه فلا تكاد حرب تنتهي حتى تبدء حرب غيرها، كان الجميع يرزح تحت أعباء العبودية شعروا بذلك أم لم يشعروا، كانت الامور تسوء أحيانا حتى يقتل الاخ أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤيه من أجل لقمة عيش تؤمّن له يوم إضافي من الحياة على هذا الكوكب
لقد كانوا متعلقين بهذا الكوكب بشكل جنوني حتى ولو أذلهم إذلال مريرا وأذاقهم طعم الذلة والهوان لمدد طويلة من حياتهم، فلقد كانوا يستحملون كل ذلك الاذلال والتعب من أجل راحة يوم أو بعض يوم عليه، وكانوا أحيانا يبذلون الغالي والرخيص من أجل أن يحصلوا على ملذة واحدة من ملذاته
ومن أجل الحصول على بعض ملذاته تصارعوا وتقاتلوا وتخاصموا وانقسموا الى فرق وطوائف وأحزاب متعددة، وتحالفوا ونقضوا عهودهم، واستعبد أحدهم الآخر واسترقّه هو وذريته من بعده لأمد طويل، تجسسوا على بعضهم البعض وخان بعضهم البعض
الدموع ملئت جنباته، والابتسامات كانت تضيء أيام وليالي سكّانه، والأحزان تعود ذكراها مع كل عام، أطفال يولدون وشيوخ يموتون نساء تترمل وشباب يموت في سوح المعارك، أمهات تبكي وأطفال تصرخ، رجال يعملون وأطفال يلعبون ونساء تتجمل وأخريات في الحقول تعمل
ليل ونهار يتعاقبان وتمر معها الايام والشهور والسنين والقرون وعشرات القرون ومئات القرون تجري وجرت سريعا على هذا الكوكب الصغير خلالها جرى ألف ألف صراع وصراع ومعه اجتاحت بعضهم مشاعر ألف ألف هزيمة وهزيمة وبعضهم الآخر مشاعر ألف ألف انتصار وانتصار
مشاعر وأحوال الفرح والأحزان، والنشوة والانتصار والذلة وخيبة الآمال، كانت تملئ جنبات هذا الكوكب ويتداولها سكانه مع مرور الآيام مرة هنا ومرة هناك، تستطيع أن تقول أن كل الاحتمالات الممكنة من هذه القصة على هذا الكوكب قد تمّ ظهورها، وكل المشاعر المحتملة من تلك الصراعات قد تم الشعور بها ووصلت الامور لحالة ستتصف بالتكرار لما كان
ولكن الأمر لم يصل لذلك أبدا، لقد بدأت الأمور تتطور بشكل غير مسبوق، تلك المجتمعات الصغيرة المتفرقة هنا وهناك بدأت تنحسر شيئا فشيئا وظهرت مكانها حضارات ومجتمعات كبيرة، ذلك البطء في جريان الأحداث انتهى وبدأت معه الأحداث تتسارع بشكل عجيب وغريب
وتلك البساطة والسذاجة التي كان الناس يتصفون بها ولّت فأصبحوا يتصفون بالحيلة المكر والذكاء
تلك الرتابة في توالي وتتابع الأحداث انتهت وأصبحت متسارعة ومتتالية بحيث يعجز المتابع أن يتابعها ولو تفرغ كل ساعاته وأيامه ولياليه لمتابعتها
ذلك الجهل وعدم المعرفة الذي كان يسود جنبات ذلك العالم انتهى فجأة وأصبح العلم من حق الجميع، وأمّا المعرفة وفروع المعرفة وفروع فروعها فأصبحت متاحة للصغير قبل الكبير وبضغطة زر واحدة، بعد أن كانت من حق نخبة النخبة فقط، ممن يملكون السلطة والمال في البلاد
لقد تبدلت الأحوال فجأة وبصورة متسارعة كبيرة وكأن الأرض تأبى أن تتكرر المشاعر والأحداث عليها مرتين
كانت الفتن سابقا صغيرة ومحلية تشمل فئة صغيرة قد يكون تعدادها مائة نفر فقط في قرية صغيرة وربما تزيد لتشمل عدة آلآف أو عدة عشرات من الآلآف في مدينة أو بلاد كبيرة،
ولكنّ الفتن أخذت تكبر وتكبر شيئا فشيئا وتتعقد وتتعقد حتى أصبحت كبيرة ومعقدة ومتشابكة لدرجة أنها أصبحت فتنة واحدة كبيرة يدخل فيها كل سكان هذا الكوكب، ويساهم بها الجميع، إلا النادر النادر منهم ممن اعتزل الناس وأغلق باب بيته على نفسه وعياله، ورغم ذلك دخلت الفتنة اليه في داره بفضل الاعلام والتقدم العلمي وبفضل الحروب التي توزعت في كل مكان
يبدوا أنه لا تكرار في التجلّي الإلهي أبدا أبدا، فتلك المشاعر والصور والأحداث التي جرت على ظهر ذلك الكوكب كانت لبعض صور تجليات علم الله التي تجلى بها من خلال أحداث هذه القصة على هذا الكوكب
وحيث أنه لا تكرار في التجلّي فقد وصلت الامور لمرحلة التغيير في وجهة سير نقطتي الخط البياني لهذه التجربة، نقطة الخير ونقطة الشر
فجميع الاحداث التي جرت على هذا الكوكب كانت تجري بين الخير والشر، فأينما وجدت الخير سائدا وجدت الشر معه ينافسه ويريد أن يحل محله، وأينما وجدت الشر وجدت الخير معها ينافسه ويريد أن يحل محله، فهما صنوان لا يفترقان
ولكن الامور وصلت كما قلنا لعدم التكرار وبدأت ترتفع وترتفع لتلك النقطة التي سيفترقان بها عن بعضهما البعض لتبدء تجليات الانفصال والتباين بينهما
فتجليات تجربة خير لا شر معه ستبدء بالظهور
وتجليات شر لا خير معه ستبدء بالظهور أيضا وبنفس الوقت
لكن بشكل منفصل لا اختلاط بينهما أبدا،
فتجربة خير محض في عالم منفصل
وتجربة شر محض في عالم آخر منفصل
ومن كلا التجربتين ستبدء مشاعر جديدة وصور تجليات جديدة بالظهور والحركة
في فترة المخاض تلك وفترة الانفصال والتباين بين الخير والشر حصل سكان هذا الكوكب على بعض المساعدة لكي يختاروا ويقرروا في أي تجربة يريدوا أن يكملوا طريقهم بها، هل في تجربة الخير أم في تجربة الشر
ولكن يجب أن نتذكر هنا أن مسألة الخير والشر هي مسألة نسبية قبل كل شيء،
فالذي اختار لنفسه طريق معين هو بالتأكيد لأنه يراه جميل وحسن قد اختاره لنفسه، فلا يوجد هناك من يريد ويختار لنفسه الطريق الصعب أو الاختيار القبيح، فالجميل هو ما ستختاره لنفسك كيفما تراه والقبيح هم ما ستفضل أن تبتعد عنه
وتلك الفتنة الكبيرة التي سيساهم بها الجميع ويعيشونها بكل جوارحهم هي من أجل ذلك الهدف تحديدا
فهي مصممة بحيث أن الجميع يرى فيها ما يريده لنفسه،
فقد يُريني قادة تلك الفتنة أن الجنة هي النار
وقد يُظهروا ويصوّروا لي النار بها وكأنها هي الجنة
فكلا الطرفين سيعتقد أخيرا وبعد حصول التمايز أنه قد اختار الجنة فعلا
وأنه قد هرب من تلك النار التي دخل الآخر بها
بمعنى آخر أن كلا الفريقين دخل أخيرا ما يعتقد أنه عالم الجنة الأرضية والعالم المثالي المناسب له
هنا أتكلم عن العالم الذي تميّز الخير والأخيار به، وبه حصلوا على مساعدة من جهات عليا هبطت عليهم من السماء بأطباق طائرة أو سفن فضائية كبيرة، ففتحت لهم أبواب العلوم والمعرفة والفهم ونبهوهم لقدرات كبيرة كانت موجودة بهم أصلا ولكنهم كانوا غافلين عنها بسبب تلك الفتن وتلك الصراعات التي كانوا يعيشون وسطها
وشيئا فشيئا بدء الناس ينتبهون لأنفسهم ولحقيقة وجودهم ولتلك القدرات الربانية المجعلوة فيهم لكنهم كانوا عنها غافلين، وشيئا فشيئا بدؤوا بعضهم باستعمالها وبدأت تنتشر بينهم بالتدريج فعملية التصديق بذلك هي أصعب مرحلة لتفعيل تلك القوى النفسية
بدأت تلك العملية تظهر على يد من نزلوا بتلك الاطباق الطائرة من السماء ثم بدأت تنتشر بين أصحابهم المقربين ثم بدأت دائرة التصديق بفعل تكرار المشاهدة وتكرار القول الامكانية بالمشيئة فقط تتسع شيئا فشيئا وأخذ عدد الذين صدّقوا بذلك قلبا وقالبا يزداد مع الأيام ويزداد حتى انتشر أخيرا بين جميع الناس في ذلك الكوكب
في بداية الأمر بدأ الناس بتلك القوى الجديدة بعلاج أنفسهم من الأمراض والعاهات ثم اكتشفوا أنهم لم يعودوا بحاجة للعمل والشقاء من أجل العيش أو رفاهية العيش، فبفضل هذه القوى الجديدة أصبح الجميع مرفهين وبدأت المشاكل والنزاعات النفسية البسيطة تخف وتختفي آثارها من بين الناس
وبعد مدة من الزمن انتقلوا لمرحلة أخرى جديدة في مسيرتهم هذه، لقد بدؤوا بتحسين صورهم وأشكالهم وأجسامهم بالطريقة التي أحبوا أن يكونوا عليها فأصبحوا يتصفون بصفات بدنية جميلة وخارقة الجمال حدّ الكمال وكيفما كانوا يتصورون ذلك الكمال
أجمل البيوت وأجمل الصور وأجمل حياة توفرت لهم بلا مجهود يذكر وبلا تعب يوُصف، لقد امتدت أعمارهم طويلا حتى أن واحدهم كان يرى أبنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده وأحفاد أحفاد أحفاده، حتى أنه كان الواحد منهم يرى ألف حفيد وحفيد من ذريته، وكلهم شباب وكلهم أصحّاء وكلهم حيوية وقوة ونشاط
أصبح الاحفاد يقرؤون ويسمعون قصص تلك الصراعات التي كانت تجري على الأرض وكأنها قصص ألف ليلة وليلة، وكثيرا ما كانوا يضحكون من مضامين تلك القصص ويتعجبون كيف أن الناس كانوا في غفلة عن تلك الحقيقة الواضحة الجليّة التي كانوا يعيشون وسطها، وكيف أنهم كانوا يعتقدون أنهم ضعفاء رغم كل تلك القوة الربانية الكامنة في كل واحد منهم وكيف كانوا يعتقدون أنهم منفصلون عن العقل الكوني وعن خالقه وخالقهم جميعا
هل هذا معقول؟
هل من الممكن أن يعتقد أحد من البشر أنه منفصل عن خالقه وأن خالقه لا يحبه وأنه خلقه للعذاب والشقاء؟
هل من الممكن أن ينحدر الفكر البشري لهذا المستوى الهابط؟
هل كل ذلك ممكن وحقيقي؟
أم انها مجرد قصص وروايات واساطير انتقلت لهم من لسان الى لسان الى لسان حتى وصلت لهم أخيرا وقد تعرضت للتحريف والمبالغات على طول الخط؟
حينها رفعوا أنظارهم للسماء، وقرروا أن يتنقلوا بين النجوم والكواكب والشموس بحثا عن حضارات لا زالت في طور نشوئها وتطورها
طبعا هم حينها لم يكونوا محتاجين لسفن فضائية لكي تنقلهم من كوكب الى كوكب الى كوكب، فيكفيهم أن يريدوا أن ينتقلوا لأي مكان حتى يجدوا أنفسهم فيه، وفي بداية الأمر فعلوا ذلك ولكنهم كثيرا ما وجدوا أنفسهم وسط أقوام غريبة عليهم وهم بدورهم غرباء عليهم فسببوا لهم بذلك الكثير من المشاكل وأحيان كثيرة أثاروا في تلك الحضارات البدائية الفزع والهلع والفوضى
فلذلك السبب ولسبب كثرة أسفارهم أيضا ولطول بقائهم في السماء وهم يتنقلون بين الكواكب والاقمار والشموس يبحثون عن حضارات جديدة وقديمة ويتمتعون بكل ما اطلعوا عليه من قصصها وأحداثها، وبمن تعرفوا عليهم من تلك الحضارات قرروا أخيرا أن يتخذوا لهم سفن أو أفلاك فضائية تعتبر جزء منهم ومن نفس ذبذباتهم ومتصلة بوعيهم لتوحي لهم بالمكان
فهم عندما يقفون خارج كوكب ما لمراقبته من الخارج يفضّلون أن يكونوا موجودين في حيز ما حتى ولو كان صغيرا، وليس كأشباح تقف في جو الفضاء عارية من أي سقف يضلها، رغم أنها تستطيع ذلك وكل سهولة،
وهنا أوجدوا لهم فكرة الطبق الطائر او الفلك السماوي كامتداد لهم ولوعيهم ومن نفس ذبذباتهم يطيرون ويطوفون به العالم الفسيح ليبعد عنهم وحشة المكان
يمكنكم أن تقولوا أن الطبق الطائر او الفلك السماوي أصبح جزء من جسدهم ووجودهم، أو امتداد لأجسادهم، جزء اخترعوه لأنفسهم من أنفسهم يرتبط به برابط روحي ويتواصلون معه تماما كما تتواصل أنفسهم العليا معهم
فإذا أرادوا الانتقال من مكان الى مكان وأرادوا أن يصحبوا معهم من يشاؤون لم يحتاجوا الى أكثر من أن يريدوا منه أن يحضر ليحضر من فوره بين يديهم وليقوم الطبق الطائر حينها بتحقيق ذلك الانتقال المطلوب تماما كما وأينما أراده صاحبه، فهو طوع إرادتهم تماما كما لو اراد الانسان تحريك يده أو أي عضو آخر منه، فهو لا يحتاج حينها الى أكثر من أن يشاء ويريد تحريكها لتتحرك اليد حينها ومن فورها لتحقيق تلك الحركة المطلوبة، وكذلك الفلك السماوي أو الطبق الطائر، فقد أصبح حينها جزء لا يتجزء من صاحبه، إسمه من اسمه وفعله من فعل صاحبه وحركته دليلا على حركة صاحبه وارادته، وذبذبته من ذبذبة صاحبه أيضا
فأذا أراد صاحبه منه أن يختفي اختفى، وإذا أراد منه الظهور ظهر، فهو جزء حيّ لا يتجزء منه، ويعمل بإرادته لا بإرادته هو، وهو أصلا لا يملك ارادة منفصلة عن صاحبه، فهو لا يريد حينها ألا ما يريده صاحبه، وهذا سيكون معناه أنه إذا أراد الحركة فذلك لأن صاحبه أراد تلك الحركة وإذا أراد السكون أو الظهور أو الاختفاء عن الأنظار فلأن صاحبه أراد ذلك
وفيما قرر بعض الاحفاد والابناء والآباء على هذا الكوكب أن يطوفوا السماوات بحثا عن حضارات قديمة أو جديدة تنتشر في عرضها وطولها، لم يثر الفضول البعض الآخر منهم، فارتأوا أن يستقروا في الكوكب حتى حين، وخلال استقرارهم به عملوا على تجميل مساكنهم وبيوتهم بأجمل ما كانوا يتخيلون صورة الجمال، ووسيلتهم لذلك كانت مشيئتهم وإرادتهم فقط،
لقد تبدلت صورة هذا الكوكب عدة مرات ومرات ومرات تبعا لمقدار وهيئة تطور مفاهيم ومعايير الجمال عندهم، وأيضا بمقدار تطور قوة رغباتهم تطورت وسائل وأشكال المتع التي كانت تلبي لهم حالة اشباع تلك الرغبات الجديدة والمتعاظمة
لقد تبدلت صور بيوتهم مرات ومرات كثيرة حتى تحولت لقصور مرصعة بما شاؤوا من الجواهر والاحجار الكريمة، وكان بعضها معلق في الهواء، وبعضها فوق رؤوس الجبال، وبعضها يجري مع الغيوم
أمّا الانهار فلم تعد تجري على الأرض فقط، بل اصبحت تجري في الهواء، طبقات فوق طبقات، وأنهار فوق أنهار، وإرادتهم ومشيئتهم كانت هي من تمسكها من الوقوع أو الزوال أو التشتت
قصور مبنية وفوقها قصور معلقات في جو السماء،
وانهار تقطع مروج الورود ذهابا وإيابا وفوقها أنهار أخرى تجري صعودا ونزولا،
وجنات تغطي مروج هذا الكوكب وفوقها تجري جري الغيوم جنات أخريات،
وهم قد بلغوا حينها بأجسادهم من الجمال لأبعد ما أمكنهم تصور وتخيّل نفس الجمال، فنفس معايير الجمال عندهم كانت تتبدل مع مرور الأيام، ومع كل اختلاط جديد لهم بحضارة جديدة من مختلف تلك الحضارات المنتشرة في أرجاء الكون، والتي أصبحت تزورهم وأصبحوا يزورونهم
وانفتحت لهم أبواب تلك العوالم التي كانت غائبة عنهم، وهم بدورهم انفتحوا عليها بوعيهم الجديد، فأصبحوا يتزاورون فيما بينهم ويتبادلون المعارف والخبرات والأذواق كيفما أرادوا واشتهوا
لقد أدركوا حينها المعنى الحقيقي لمعنى "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم" وكيف أنهم كانوا بفعل نسيانهم وغفلتهم وسوء ظنهم في "أسفل سافلين"، فالتقويم الأحسن هو التقويم المكتفي والقادر ذاتيا على تحقيق وتلبية جميع مطالب صاحبه متى، وكيفما، وأينما، وحالما ،وكلما شاء وأراد صاحبه وهذا هو التقويم الأفضل الذي كانو غافلين عنه،
واستمروا على تلك الحالة الجميلة لمدة طويلة من الزمان
لكن الرغبة باكتشاف السماوات وعوالمها كانت أقوى منهم جميعا، فأخذت تسحب أفراد هذا الكوكب شيئا فشيئا لداخل أعمق أعماق الكون السحيق، حتى أدرك من كان قد بقي منهم على سطحه أن لحظة هجرانهم لهذا الكوكب نهائيا من غير رجعة أصبحت وشيكة وقريبة جدا ولا يمكن لهم تفاديها أبدا،
فأحبوا حينها أن يتركوا على ذلك الكوكب أثر لهم لا يزول بسهولة مع مرور الايام والسنين الطويلة،
أثر لا يمكن لعوامل التعرية والانواء الجوية والعواصف والزلازل أن تؤثر به تأثيرا كبيرا أو صغيرا، أثرا يدوم لأطول مدة ممكنة على هذا الكوكب فيزورونه كلما مروا عليه ليتذكروا معها ذكريات وأحداث كثيرة عاشوها وعاصروها عليه،
هنا كنا نلعب، وهنا سكنّا، وهنا كنّا نتسامر ونتلاعب، وهنا خطى أطفالنا وأحفادنا أول خطواتهم، وهنا وهنا وهنا
أحبوا أن يتركوا علامة لهم، ودليلا لمن قد يزور هذا الكوكب فيما بعد، أو ربما سيعيش عليه في المستقبل ويستوطنه، دليلا على أن عِرقا ذكيا، وحضارة كبيرة وقوية، كانت في يوم من الأيام تستوطن هذا الكوكب وكانت متقدمة في علومها وامكانياتها وحضارتها
فبحثوا في المواد فاختاروا منها الذهب والحجارة الصلبة الشديدة، فلا هذه تتفاعل مع البيئة الباردة إذا حفظت معزولة وبشكل جيد، ولا تلك تبلى إثر العواصف والحرارة، أو إثر احتكاك حبيبات الغبار والرمال بها، ومنهما صنعوا آثارا كبيرة وصغيرة، ونحتوا رموز حضارتهم وخلاصة علومهم وقدراتهم وأهم انجازات حضاراتهم على جدران وصفحات تلك الآثار
وأخيرا حانت تلك اللحظة التي وقفت بها آخر تلك المجموعات التي كانت لا تزال تقطن ذلك الكوكب، وقفت في سفنها الفضائية الكبيرة تنظر نظرة الوداع لجنّاتهم الجميلة وقصورهم المعلقة الفاخرة وانهارهم اللذيذة والتي بنوها وأوجدوها لأنفسهم من العدم وفقط بإرادتهم ومشيئتهم، ثم حافظوا عليها جميلة ويانعة وقوية بنفس مشيئتهم تلك التي بنوها بها ابتداءا، فحافظوا عليها طوال وجودهم على هذا الكوكب الذي تحول الى جنة جميلة من جنان الكون الفسيح، وها هم يهجروه أخيرا ليطوفوا في أرجاء الكون الفسيح كما فعل بقية أبناء جنسهم من قبل
مرتفعة شيئا فشيئا تحركت سفنهم الفضائية ببطء شديد وكأنهم يريدون للحظة الفراق تلك أن تطول وتطول لأكثر ما يمكنهم إطالتها، ولكن ومهما طالت تلك اللحظة وطالت وأرادوا إطالتها، فإنهم اجتازوا أخيرا الغلاف الجوي وبدأت صورة كوكبهم وأقماره تصغر وتصغر وتصغر حتى اختفى أخيرا من مجال نظرهم الطبيعي، وحينها وبلمح البصر انتقلوا الى حيث أول محطة لهم في رحلتهم الكونية اللانهائية
أمّا كوكبهم فبمجرد رحيلهم عنه بدأت قصوره وجناته وأنهاره تتهاوى تباعا وشيئا فشيئا، فتلك الارادات والمشيئات التي كانت تمسكها من أن تقع على الأرض بدأت تنساها وتغفل عنها شيئا فشيئا، وهي بدورها مع كل نسيان وغفلة لها كانت تتهاوى وتتهاوى، فأصحابها قد انشغلوا عنها بمتع أخرى، أجمل، وأمتع، وأكثر إثارة للحواس والخيال، في عوالم أخرى، وكواكب أكبر وأجمل، رأوا فيها منذ أول لحظة لهم عليها ما لم تراها أعينهم من قبل، وما لم يخطر لهم على بال
لقد تهاوت أخيرا جميع تلك الجنائن المعلقة، وتهاوت معها جميع تلك القصور المنيفة، وتحولت قبلها جميع تلك الأنهار المعلقة والجميلة الى أمطار غزيرة، فأرباب تلك الأرض هجروها ونسوها ولم يعد هناك من يهتم لأمرها، فبدأت عوامل البيئة والتعرية حينها تأخذ مجراها الطبيعي مرة أخرى، ليعود معها قانون الغاب ليحكم من جديد بين تلك الحيوانات التي كانت إلى عهد قريب متحابة ومتآلفة بسبب وجود أرباب ذلك الكوكب عليه، ولكن وبمجرد أن غادروها بدء صراع وقانون الغاب القديم بالظهور فورا ومن جديد بين سكان تلك الغابات والأشجار والانهار لتبدء معها دورة حياة جديدة منتظرة من سيبدء على سطح هذا الكوكب قصة جديدة وربما لصراع جديد على سطح هذا الكوكب الصغير
منقول
الحقيقة أغرب من الخيال وكل ما سأكتبه في هذه السطور هو من الخيال الذي قد يبدو بعضه أنه ليس منه ولكنه فعلا مجرد خيال
كيف بدأت قصة آدم وذريته على هذه الأرض؟
سأبدء بخيالاتي من نهاية القصة لأعود بها لبدايتها ثم أمر سريعا على ما بينهما
المكان: هنا
الزمان: الآن
أجلس وحيدا والأفكار حول نهاية الزمان وفناء المكان تتلاعب برأسي، هل يمكن أن يحدث ذلك؟
وهل يمكن أن ينتهي كل شيء بكل هذه البساطة؟
كلا كلا، هذا من غير المرجّح أبدا أن يكون، فلا بد أن تكون هناك بداية أخرى بعد النهاية التي يتكلم الجميع عنها، فكل نهاية هي بداية جديدة،
ولكن كيف يمكن لذلك أن يكون؟
كيف من الممكن أن تكون النهاية هي البداية؟
لا بد أن أتخيل نهاية تصح أن تكون بداية، حتى ولو كان ذلك الخيال مجرد خيال لا واقع حقيقي له على الإطلاق
يجب أن يكون خيالي وتخيلي للنهاية الموصلة للبداية غريب بشكل كبير لأن الحقيقة هي أكبر وأغرب منه بمراحل، فكيف يمكن لعقل قاصر أن يتصوّر لحقيقة ما يمكن للعقل الكامل القادر أن يفعله، بالتأكيد لن يمكنه ذلك أبدا أبدا، ولكن بالخيال يمكنك أن تتصور كيف يستطيع العقل الكامل القادر أن يفعل ما لا يمكنك أن تفعله كعقل ناقص ضعيف
يمكنك عبر قناة الخيال أن تتخيل كوكبا لا تأثير للجاذبية به أبدا، ومخلوقاته تطير متى شائت وتستقر متى تشاء
يمكنك أن تتخيل أن الصمت يلف هذا الكوكب رغم امتلائه بالمخلوقات وذلك لأن مخلوقاته تسمع ما تشاء متى تشاء، أنها تسمع بالاذن الداخلية بطريقة يمكنك أن تسميها بتوارد الخواطر، في هذا الكوكب أنت لا تحتاج الى تلفون ولا الى جهاز سلكي أو لا سلكي، وإذا ما أردت أن تحادث أحد من الناس يكفي أن تفكر به وهو بدوره يسمعك فإن كان مشغول أجّلك لما بعد وإذا ما رغب بمحادثتك بادلك حينها الخواطر بخواطر أخرى
في هذا الكوكب أنت لا تحتاج الى سيّارة أو طيارة لكي تنتقل من مكان الى مكان، ويكفي أن تشاء وتريد أن تنتقل لمكان ما لتنتقل من فورك وقبل أن يرتد اليك طرفك الى حيث ما شئت الانتقال
وفي هذا الكوكب يمكنك أن ترى من تحبهم وتشاء رؤيتهم بمجرد أن تشاء ذلك فتتمثل صورهم بعقلك أو على كفّ يدك كيفما وأينما كانوا
وفي هذا الكوكب لا توجد ضغائن أو نزاعات أو أدنى صور الغلّ في القلوب، لأن المال فقد قيمته فلا الذهب ولا الفضة ولا الألماس ولا الأوراق النقدية لها أي قيمة تذكر
فأهل هذا الكوكب يمكنهم الحصول على ما يريدون بمجرد أن يريدوه ليتمثل أمامهم من فوره، وليس فرد واحد منهم يستطيع ذلك ولا مجرد فردين أو ثلاثة أو أمة واحدة منه فقط تستطيع ذلك، بل كل أفراد هذا الكوكب يستطيعون ذلك وبكل سهولة ويسر
في هذا الكوكب لا يحتاج أحد من أفراده لأن يعمل أو يكد ويتعب لكي يعيش ويأكل ويشرب بل حتى أن أغلبهم قرر أن يأخذ غذائه مباشرة من الشمس نقيا صافيا قبل أن يختلط بتراب الارض ويتحول لصور مختلفة من المعادن والفيتامينات والمواد الغذائية ولمختلف الأطعمة والروائح
وقرر أن يأخذ الماء مباشرة من الهواء مع كل نفس يتنفسه وقبل أن يتكثّف ويصبح سائلا غليظا، فأهل هذا الكوكب لا يأكلون ويشربون كما نأكل نحن اليوم ونشرب ولكنهم رغم ذلك يحصلون على أجمل الروائح وأطيب المذاقات مباشرة من الشمس والهواء فأعضاء بدنهم الذي أصبح رهيفا متصلة اتصال مباشر مع وعيهم وارادتهم وتعمل على تلبية رغباتهم كيفما رغبو بها
فإذا رغبوا بطعم فاكهة العنب أو التفاح أو الرمان أو غير ذلك، إستخلصت أبدانهم تلك الأطعمة مباشرة من الشمس والهواء وأذاقتهم إيّاها وأمدّتهم بها من فورها، فكل تلك المذاقات والروائح وأنواع الطاقة هي موجودة فعلا من حولهم بأشعة الشمس والهواء والفضاء وكان دور الارض فيما سبق هو فقط أنها هي من تستخلصها من الشمس والهواء وتفصلها عن بعضها البعض وتركبها وتجعلها بصور فواكه وأطعمة وزروع مختلفة،
ولكن أهل هذا الكوكب تعلموا أخيرا كيف يمكنهم أن يستغنوا عن هذا الدور للأرض في استخلاص تلك الاطعمة والطاقة وفصلها عن بعضها البعض وتركيبها بصور فواكه وزروع مختلفة، وأصبحوا هم وكل واحد منهم يستخلصونها بأنفسهم وبإرادتهم ومشيئتهم مباشرة من الشمس والفضاء بدون الحاجة لدور الأرض أو للزراعة ثم الصناعة بعد ذلك
لقد أصبح أهل هذا الكوكب في شباب دائم لا يشيخون ولا يهرمون ولا يموتون، وهم لا يمرضون أيضا، ولو مرضوا فإن كل الادوية موجودة من حولهم هنا وفي هذه اللحظة في أشعة الشمس والهواء والفضاء وأبدانهم تعلمت أن تتصل بالكون من حولها لتأخذ منه ما تريد
إن تاريخ هذا الكوكب كان فيما سبق مر ومرير ومريع، كانت الحروب تملؤه فلا تكاد حرب تنتهي حتى تبدء حرب غيرها، كان الجميع يرزح تحت أعباء العبودية شعروا بذلك أم لم يشعروا، كانت الامور تسوء أحيانا حتى يقتل الاخ أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤيه من أجل لقمة عيش تؤمّن له يوم إضافي من الحياة على هذا الكوكب
لقد كانوا متعلقين بهذا الكوكب بشكل جنوني حتى ولو أذلهم إذلال مريرا وأذاقهم طعم الذلة والهوان لمدد طويلة من حياتهم، فلقد كانوا يستحملون كل ذلك الاذلال والتعب من أجل راحة يوم أو بعض يوم عليه، وكانوا أحيانا يبذلون الغالي والرخيص من أجل أن يحصلوا على ملذة واحدة من ملذاته
ومن أجل الحصول على بعض ملذاته تصارعوا وتقاتلوا وتخاصموا وانقسموا الى فرق وطوائف وأحزاب متعددة، وتحالفوا ونقضوا عهودهم، واستعبد أحدهم الآخر واسترقّه هو وذريته من بعده لأمد طويل، تجسسوا على بعضهم البعض وخان بعضهم البعض
الدموع ملئت جنباته، والابتسامات كانت تضيء أيام وليالي سكّانه، والأحزان تعود ذكراها مع كل عام، أطفال يولدون وشيوخ يموتون نساء تترمل وشباب يموت في سوح المعارك، أمهات تبكي وأطفال تصرخ، رجال يعملون وأطفال يلعبون ونساء تتجمل وأخريات في الحقول تعمل
ليل ونهار يتعاقبان وتمر معها الايام والشهور والسنين والقرون وعشرات القرون ومئات القرون تجري وجرت سريعا على هذا الكوكب الصغير خلالها جرى ألف ألف صراع وصراع ومعه اجتاحت بعضهم مشاعر ألف ألف هزيمة وهزيمة وبعضهم الآخر مشاعر ألف ألف انتصار وانتصار
مشاعر وأحوال الفرح والأحزان، والنشوة والانتصار والذلة وخيبة الآمال، كانت تملئ جنبات هذا الكوكب ويتداولها سكانه مع مرور الآيام مرة هنا ومرة هناك، تستطيع أن تقول أن كل الاحتمالات الممكنة من هذه القصة على هذا الكوكب قد تمّ ظهورها، وكل المشاعر المحتملة من تلك الصراعات قد تم الشعور بها ووصلت الامور لحالة ستتصف بالتكرار لما كان
ولكن الأمر لم يصل لذلك أبدا، لقد بدأت الأمور تتطور بشكل غير مسبوق، تلك المجتمعات الصغيرة المتفرقة هنا وهناك بدأت تنحسر شيئا فشيئا وظهرت مكانها حضارات ومجتمعات كبيرة، ذلك البطء في جريان الأحداث انتهى وبدأت معه الأحداث تتسارع بشكل عجيب وغريب
وتلك البساطة والسذاجة التي كان الناس يتصفون بها ولّت فأصبحوا يتصفون بالحيلة المكر والذكاء
تلك الرتابة في توالي وتتابع الأحداث انتهت وأصبحت متسارعة ومتتالية بحيث يعجز المتابع أن يتابعها ولو تفرغ كل ساعاته وأيامه ولياليه لمتابعتها
ذلك الجهل وعدم المعرفة الذي كان يسود جنبات ذلك العالم انتهى فجأة وأصبح العلم من حق الجميع، وأمّا المعرفة وفروع المعرفة وفروع فروعها فأصبحت متاحة للصغير قبل الكبير وبضغطة زر واحدة، بعد أن كانت من حق نخبة النخبة فقط، ممن يملكون السلطة والمال في البلاد
لقد تبدلت الأحوال فجأة وبصورة متسارعة كبيرة وكأن الأرض تأبى أن تتكرر المشاعر والأحداث عليها مرتين
كانت الفتن سابقا صغيرة ومحلية تشمل فئة صغيرة قد يكون تعدادها مائة نفر فقط في قرية صغيرة وربما تزيد لتشمل عدة آلآف أو عدة عشرات من الآلآف في مدينة أو بلاد كبيرة،
ولكنّ الفتن أخذت تكبر وتكبر شيئا فشيئا وتتعقد وتتعقد حتى أصبحت كبيرة ومعقدة ومتشابكة لدرجة أنها أصبحت فتنة واحدة كبيرة يدخل فيها كل سكان هذا الكوكب، ويساهم بها الجميع، إلا النادر النادر منهم ممن اعتزل الناس وأغلق باب بيته على نفسه وعياله، ورغم ذلك دخلت الفتنة اليه في داره بفضل الاعلام والتقدم العلمي وبفضل الحروب التي توزعت في كل مكان
يبدوا أنه لا تكرار في التجلّي الإلهي أبدا أبدا، فتلك المشاعر والصور والأحداث التي جرت على ظهر ذلك الكوكب كانت لبعض صور تجليات علم الله التي تجلى بها من خلال أحداث هذه القصة على هذا الكوكب
وحيث أنه لا تكرار في التجلّي فقد وصلت الامور لمرحلة التغيير في وجهة سير نقطتي الخط البياني لهذه التجربة، نقطة الخير ونقطة الشر
فجميع الاحداث التي جرت على هذا الكوكب كانت تجري بين الخير والشر، فأينما وجدت الخير سائدا وجدت الشر معه ينافسه ويريد أن يحل محله، وأينما وجدت الشر وجدت الخير معها ينافسه ويريد أن يحل محله، فهما صنوان لا يفترقان
ولكن الامور وصلت كما قلنا لعدم التكرار وبدأت ترتفع وترتفع لتلك النقطة التي سيفترقان بها عن بعضهما البعض لتبدء تجليات الانفصال والتباين بينهما
فتجليات تجربة خير لا شر معه ستبدء بالظهور
وتجليات شر لا خير معه ستبدء بالظهور أيضا وبنفس الوقت
لكن بشكل منفصل لا اختلاط بينهما أبدا،
فتجربة خير محض في عالم منفصل
وتجربة شر محض في عالم آخر منفصل
ومن كلا التجربتين ستبدء مشاعر جديدة وصور تجليات جديدة بالظهور والحركة
في فترة المخاض تلك وفترة الانفصال والتباين بين الخير والشر حصل سكان هذا الكوكب على بعض المساعدة لكي يختاروا ويقرروا في أي تجربة يريدوا أن يكملوا طريقهم بها، هل في تجربة الخير أم في تجربة الشر
ولكن يجب أن نتذكر هنا أن مسألة الخير والشر هي مسألة نسبية قبل كل شيء،
فالذي اختار لنفسه طريق معين هو بالتأكيد لأنه يراه جميل وحسن قد اختاره لنفسه، فلا يوجد هناك من يريد ويختار لنفسه الطريق الصعب أو الاختيار القبيح، فالجميل هو ما ستختاره لنفسك كيفما تراه والقبيح هم ما ستفضل أن تبتعد عنه
وتلك الفتنة الكبيرة التي سيساهم بها الجميع ويعيشونها بكل جوارحهم هي من أجل ذلك الهدف تحديدا
فهي مصممة بحيث أن الجميع يرى فيها ما يريده لنفسه،
فقد يُريني قادة تلك الفتنة أن الجنة هي النار
وقد يُظهروا ويصوّروا لي النار بها وكأنها هي الجنة
فكلا الطرفين سيعتقد أخيرا وبعد حصول التمايز أنه قد اختار الجنة فعلا
وأنه قد هرب من تلك النار التي دخل الآخر بها
بمعنى آخر أن كلا الفريقين دخل أخيرا ما يعتقد أنه عالم الجنة الأرضية والعالم المثالي المناسب له
هنا أتكلم عن العالم الذي تميّز الخير والأخيار به، وبه حصلوا على مساعدة من جهات عليا هبطت عليهم من السماء بأطباق طائرة أو سفن فضائية كبيرة، ففتحت لهم أبواب العلوم والمعرفة والفهم ونبهوهم لقدرات كبيرة كانت موجودة بهم أصلا ولكنهم كانوا غافلين عنها بسبب تلك الفتن وتلك الصراعات التي كانوا يعيشون وسطها
وشيئا فشيئا بدء الناس ينتبهون لأنفسهم ولحقيقة وجودهم ولتلك القدرات الربانية المجعلوة فيهم لكنهم كانوا عنها غافلين، وشيئا فشيئا بدؤوا بعضهم باستعمالها وبدأت تنتشر بينهم بالتدريج فعملية التصديق بذلك هي أصعب مرحلة لتفعيل تلك القوى النفسية
بدأت تلك العملية تظهر على يد من نزلوا بتلك الاطباق الطائرة من السماء ثم بدأت تنتشر بين أصحابهم المقربين ثم بدأت دائرة التصديق بفعل تكرار المشاهدة وتكرار القول الامكانية بالمشيئة فقط تتسع شيئا فشيئا وأخذ عدد الذين صدّقوا بذلك قلبا وقالبا يزداد مع الأيام ويزداد حتى انتشر أخيرا بين جميع الناس في ذلك الكوكب
في بداية الأمر بدأ الناس بتلك القوى الجديدة بعلاج أنفسهم من الأمراض والعاهات ثم اكتشفوا أنهم لم يعودوا بحاجة للعمل والشقاء من أجل العيش أو رفاهية العيش، فبفضل هذه القوى الجديدة أصبح الجميع مرفهين وبدأت المشاكل والنزاعات النفسية البسيطة تخف وتختفي آثارها من بين الناس
وبعد مدة من الزمن انتقلوا لمرحلة أخرى جديدة في مسيرتهم هذه، لقد بدؤوا بتحسين صورهم وأشكالهم وأجسامهم بالطريقة التي أحبوا أن يكونوا عليها فأصبحوا يتصفون بصفات بدنية جميلة وخارقة الجمال حدّ الكمال وكيفما كانوا يتصورون ذلك الكمال
أجمل البيوت وأجمل الصور وأجمل حياة توفرت لهم بلا مجهود يذكر وبلا تعب يوُصف، لقد امتدت أعمارهم طويلا حتى أن واحدهم كان يرى أبنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده وأحفاد أحفاد أحفاده، حتى أنه كان الواحد منهم يرى ألف حفيد وحفيد من ذريته، وكلهم شباب وكلهم أصحّاء وكلهم حيوية وقوة ونشاط
أصبح الاحفاد يقرؤون ويسمعون قصص تلك الصراعات التي كانت تجري على الأرض وكأنها قصص ألف ليلة وليلة، وكثيرا ما كانوا يضحكون من مضامين تلك القصص ويتعجبون كيف أن الناس كانوا في غفلة عن تلك الحقيقة الواضحة الجليّة التي كانوا يعيشون وسطها، وكيف أنهم كانوا يعتقدون أنهم ضعفاء رغم كل تلك القوة الربانية الكامنة في كل واحد منهم وكيف كانوا يعتقدون أنهم منفصلون عن العقل الكوني وعن خالقه وخالقهم جميعا
هل هذا معقول؟
هل من الممكن أن يعتقد أحد من البشر أنه منفصل عن خالقه وأن خالقه لا يحبه وأنه خلقه للعذاب والشقاء؟
هل من الممكن أن ينحدر الفكر البشري لهذا المستوى الهابط؟
هل كل ذلك ممكن وحقيقي؟
أم انها مجرد قصص وروايات واساطير انتقلت لهم من لسان الى لسان الى لسان حتى وصلت لهم أخيرا وقد تعرضت للتحريف والمبالغات على طول الخط؟
حينها رفعوا أنظارهم للسماء، وقرروا أن يتنقلوا بين النجوم والكواكب والشموس بحثا عن حضارات لا زالت في طور نشوئها وتطورها
طبعا هم حينها لم يكونوا محتاجين لسفن فضائية لكي تنقلهم من كوكب الى كوكب الى كوكب، فيكفيهم أن يريدوا أن ينتقلوا لأي مكان حتى يجدوا أنفسهم فيه، وفي بداية الأمر فعلوا ذلك ولكنهم كثيرا ما وجدوا أنفسهم وسط أقوام غريبة عليهم وهم بدورهم غرباء عليهم فسببوا لهم بذلك الكثير من المشاكل وأحيان كثيرة أثاروا في تلك الحضارات البدائية الفزع والهلع والفوضى
فلذلك السبب ولسبب كثرة أسفارهم أيضا ولطول بقائهم في السماء وهم يتنقلون بين الكواكب والاقمار والشموس يبحثون عن حضارات جديدة وقديمة ويتمتعون بكل ما اطلعوا عليه من قصصها وأحداثها، وبمن تعرفوا عليهم من تلك الحضارات قرروا أخيرا أن يتخذوا لهم سفن أو أفلاك فضائية تعتبر جزء منهم ومن نفس ذبذباتهم ومتصلة بوعيهم لتوحي لهم بالمكان
فهم عندما يقفون خارج كوكب ما لمراقبته من الخارج يفضّلون أن يكونوا موجودين في حيز ما حتى ولو كان صغيرا، وليس كأشباح تقف في جو الفضاء عارية من أي سقف يضلها، رغم أنها تستطيع ذلك وكل سهولة،
وهنا أوجدوا لهم فكرة الطبق الطائر او الفلك السماوي كامتداد لهم ولوعيهم ومن نفس ذبذباتهم يطيرون ويطوفون به العالم الفسيح ليبعد عنهم وحشة المكان
يمكنكم أن تقولوا أن الطبق الطائر او الفلك السماوي أصبح جزء من جسدهم ووجودهم، أو امتداد لأجسادهم، جزء اخترعوه لأنفسهم من أنفسهم يرتبط به برابط روحي ويتواصلون معه تماما كما تتواصل أنفسهم العليا معهم
فإذا أرادوا الانتقال من مكان الى مكان وأرادوا أن يصحبوا معهم من يشاؤون لم يحتاجوا الى أكثر من أن يريدوا منه أن يحضر ليحضر من فوره بين يديهم وليقوم الطبق الطائر حينها بتحقيق ذلك الانتقال المطلوب تماما كما وأينما أراده صاحبه، فهو طوع إرادتهم تماما كما لو اراد الانسان تحريك يده أو أي عضو آخر منه، فهو لا يحتاج حينها الى أكثر من أن يشاء ويريد تحريكها لتتحرك اليد حينها ومن فورها لتحقيق تلك الحركة المطلوبة، وكذلك الفلك السماوي أو الطبق الطائر، فقد أصبح حينها جزء لا يتجزء من صاحبه، إسمه من اسمه وفعله من فعل صاحبه وحركته دليلا على حركة صاحبه وارادته، وذبذبته من ذبذبة صاحبه أيضا
فأذا أراد صاحبه منه أن يختفي اختفى، وإذا أراد منه الظهور ظهر، فهو جزء حيّ لا يتجزء منه، ويعمل بإرادته لا بإرادته هو، وهو أصلا لا يملك ارادة منفصلة عن صاحبه، فهو لا يريد حينها ألا ما يريده صاحبه، وهذا سيكون معناه أنه إذا أراد الحركة فذلك لأن صاحبه أراد تلك الحركة وإذا أراد السكون أو الظهور أو الاختفاء عن الأنظار فلأن صاحبه أراد ذلك
وفيما قرر بعض الاحفاد والابناء والآباء على هذا الكوكب أن يطوفوا السماوات بحثا عن حضارات قديمة أو جديدة تنتشر في عرضها وطولها، لم يثر الفضول البعض الآخر منهم، فارتأوا أن يستقروا في الكوكب حتى حين، وخلال استقرارهم به عملوا على تجميل مساكنهم وبيوتهم بأجمل ما كانوا يتخيلون صورة الجمال، ووسيلتهم لذلك كانت مشيئتهم وإرادتهم فقط،
لقد تبدلت صورة هذا الكوكب عدة مرات ومرات ومرات تبعا لمقدار وهيئة تطور مفاهيم ومعايير الجمال عندهم، وأيضا بمقدار تطور قوة رغباتهم تطورت وسائل وأشكال المتع التي كانت تلبي لهم حالة اشباع تلك الرغبات الجديدة والمتعاظمة
لقد تبدلت صور بيوتهم مرات ومرات كثيرة حتى تحولت لقصور مرصعة بما شاؤوا من الجواهر والاحجار الكريمة، وكان بعضها معلق في الهواء، وبعضها فوق رؤوس الجبال، وبعضها يجري مع الغيوم
أمّا الانهار فلم تعد تجري على الأرض فقط، بل اصبحت تجري في الهواء، طبقات فوق طبقات، وأنهار فوق أنهار، وإرادتهم ومشيئتهم كانت هي من تمسكها من الوقوع أو الزوال أو التشتت
قصور مبنية وفوقها قصور معلقات في جو السماء،
وانهار تقطع مروج الورود ذهابا وإيابا وفوقها أنهار أخرى تجري صعودا ونزولا،
وجنات تغطي مروج هذا الكوكب وفوقها تجري جري الغيوم جنات أخريات،
وهم قد بلغوا حينها بأجسادهم من الجمال لأبعد ما أمكنهم تصور وتخيّل نفس الجمال، فنفس معايير الجمال عندهم كانت تتبدل مع مرور الأيام، ومع كل اختلاط جديد لهم بحضارة جديدة من مختلف تلك الحضارات المنتشرة في أرجاء الكون، والتي أصبحت تزورهم وأصبحوا يزورونهم
وانفتحت لهم أبواب تلك العوالم التي كانت غائبة عنهم، وهم بدورهم انفتحوا عليها بوعيهم الجديد، فأصبحوا يتزاورون فيما بينهم ويتبادلون المعارف والخبرات والأذواق كيفما أرادوا واشتهوا
لقد أدركوا حينها المعنى الحقيقي لمعنى "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم" وكيف أنهم كانوا بفعل نسيانهم وغفلتهم وسوء ظنهم في "أسفل سافلين"، فالتقويم الأحسن هو التقويم المكتفي والقادر ذاتيا على تحقيق وتلبية جميع مطالب صاحبه متى، وكيفما، وأينما، وحالما ،وكلما شاء وأراد صاحبه وهذا هو التقويم الأفضل الذي كانو غافلين عنه،
واستمروا على تلك الحالة الجميلة لمدة طويلة من الزمان
لكن الرغبة باكتشاف السماوات وعوالمها كانت أقوى منهم جميعا، فأخذت تسحب أفراد هذا الكوكب شيئا فشيئا لداخل أعمق أعماق الكون السحيق، حتى أدرك من كان قد بقي منهم على سطحه أن لحظة هجرانهم لهذا الكوكب نهائيا من غير رجعة أصبحت وشيكة وقريبة جدا ولا يمكن لهم تفاديها أبدا،
فأحبوا حينها أن يتركوا على ذلك الكوكب أثر لهم لا يزول بسهولة مع مرور الايام والسنين الطويلة،
أثر لا يمكن لعوامل التعرية والانواء الجوية والعواصف والزلازل أن تؤثر به تأثيرا كبيرا أو صغيرا، أثرا يدوم لأطول مدة ممكنة على هذا الكوكب فيزورونه كلما مروا عليه ليتذكروا معها ذكريات وأحداث كثيرة عاشوها وعاصروها عليه،
هنا كنا نلعب، وهنا سكنّا، وهنا كنّا نتسامر ونتلاعب، وهنا خطى أطفالنا وأحفادنا أول خطواتهم، وهنا وهنا وهنا
أحبوا أن يتركوا علامة لهم، ودليلا لمن قد يزور هذا الكوكب فيما بعد، أو ربما سيعيش عليه في المستقبل ويستوطنه، دليلا على أن عِرقا ذكيا، وحضارة كبيرة وقوية، كانت في يوم من الأيام تستوطن هذا الكوكب وكانت متقدمة في علومها وامكانياتها وحضارتها
فبحثوا في المواد فاختاروا منها الذهب والحجارة الصلبة الشديدة، فلا هذه تتفاعل مع البيئة الباردة إذا حفظت معزولة وبشكل جيد، ولا تلك تبلى إثر العواصف والحرارة، أو إثر احتكاك حبيبات الغبار والرمال بها، ومنهما صنعوا آثارا كبيرة وصغيرة، ونحتوا رموز حضارتهم وخلاصة علومهم وقدراتهم وأهم انجازات حضاراتهم على جدران وصفحات تلك الآثار
وأخيرا حانت تلك اللحظة التي وقفت بها آخر تلك المجموعات التي كانت لا تزال تقطن ذلك الكوكب، وقفت في سفنها الفضائية الكبيرة تنظر نظرة الوداع لجنّاتهم الجميلة وقصورهم المعلقة الفاخرة وانهارهم اللذيذة والتي بنوها وأوجدوها لأنفسهم من العدم وفقط بإرادتهم ومشيئتهم، ثم حافظوا عليها جميلة ويانعة وقوية بنفس مشيئتهم تلك التي بنوها بها ابتداءا، فحافظوا عليها طوال وجودهم على هذا الكوكب الذي تحول الى جنة جميلة من جنان الكون الفسيح، وها هم يهجروه أخيرا ليطوفوا في أرجاء الكون الفسيح كما فعل بقية أبناء جنسهم من قبل
مرتفعة شيئا فشيئا تحركت سفنهم الفضائية ببطء شديد وكأنهم يريدون للحظة الفراق تلك أن تطول وتطول لأكثر ما يمكنهم إطالتها، ولكن ومهما طالت تلك اللحظة وطالت وأرادوا إطالتها، فإنهم اجتازوا أخيرا الغلاف الجوي وبدأت صورة كوكبهم وأقماره تصغر وتصغر وتصغر حتى اختفى أخيرا من مجال نظرهم الطبيعي، وحينها وبلمح البصر انتقلوا الى حيث أول محطة لهم في رحلتهم الكونية اللانهائية
أمّا كوكبهم فبمجرد رحيلهم عنه بدأت قصوره وجناته وأنهاره تتهاوى تباعا وشيئا فشيئا، فتلك الارادات والمشيئات التي كانت تمسكها من أن تقع على الأرض بدأت تنساها وتغفل عنها شيئا فشيئا، وهي بدورها مع كل نسيان وغفلة لها كانت تتهاوى وتتهاوى، فأصحابها قد انشغلوا عنها بمتع أخرى، أجمل، وأمتع، وأكثر إثارة للحواس والخيال، في عوالم أخرى، وكواكب أكبر وأجمل، رأوا فيها منذ أول لحظة لهم عليها ما لم تراها أعينهم من قبل، وما لم يخطر لهم على بال
لقد تهاوت أخيرا جميع تلك الجنائن المعلقة، وتهاوت معها جميع تلك القصور المنيفة، وتحولت قبلها جميع تلك الأنهار المعلقة والجميلة الى أمطار غزيرة، فأرباب تلك الأرض هجروها ونسوها ولم يعد هناك من يهتم لأمرها، فبدأت عوامل البيئة والتعرية حينها تأخذ مجراها الطبيعي مرة أخرى، ليعود معها قانون الغاب ليحكم من جديد بين تلك الحيوانات التي كانت إلى عهد قريب متحابة ومتآلفة بسبب وجود أرباب ذلك الكوكب عليه، ولكن وبمجرد أن غادروها بدء صراع وقانون الغاب القديم بالظهور فورا ومن جديد بين سكان تلك الغابات والأشجار والانهار لتبدء معها دورة حياة جديدة منتظرة من سيبدء على سطح هذا الكوكب قصة جديدة وربما لصراع جديد على سطح هذا الكوكب الصغير
منقول
تعليق