عندما يكون العقل جبانا
من اجل حضارة عقائدية معاصرة
اصبح من المؤكد في موارد المعرفة الانسانية ان العقل الانساني لا يمكن ان يتناظر بين اثنين من العقلاء حيث تختلف المتراكمات الفكرية والقدرات العقلية بين الناس وذلك الاختلاف يمنح كل انسان بصمته العقلية ويمنحه هوية خاصة لا يشاركه فيها احد وليس كما هي الاشياء المصنوعة المستنسخة والتي تحمل مواصفة أحادية متكررة في كل نسخة مصنوعة ..
نشر تقرير ظريف في ستينات القرن الماضي في حواشي علم الاجرام تحدث التقرير عن ارتفاع نسبة الجريمة الكاملة في امريكا (الجريمة التي يختفي فيها الفاعل) فقررت الحكومة الفيدرالية ترشيح قرابة 100 محقق ناجح مجرب وكفوء في دورة مكثفة يختصون في تعقب الفاعل في الجريمة الكاملة تابعين لمكتب التحقيقات الفيدرالي وكان صاحب الفكرة خبير (بروفسور) وهو نفسه مدير الدورة وهو نفسه المحاضر الاول فيها حيث كان يركز على تثوير دقة الملاحظة لدى المحققين المنتخبين لتلك المهمة .
بعد ان اكمل المحققون دروسهم التي اتخذت طابعا اكاديميا في سايكلوجية المجرم ونظم كشف هويته من سلوكيته في الجريمة كان المحققون في قاعة امتحانية واحدة حيث بدأ المحاضر مدير الدورة بتوزيع مظروف الاسئلة النهائية على الممتحنين وبعد اتمام توزيع الاسئلة المختومة كان المحققون ينتظرون جرس الاستاذ ليبدأوا بفتح مظروف الاسئلة والبديء بالجواب الا ان حادثا طارئا حدث اربك قاعة الامتحان حيث دخل اثنين من الهاربين يحاولون اخفاء انفسهم بين الممتحنين يطاردهم عدد من الحرس الجامعي وبعد مناوشات بسيطة اطلق احد الحرس عدة اطلاقات مما دفع الشخصين الهاربين الى الاستسلام وقيدت ايدهما واخرجا من القاعة الامتحانية ليعود اليها الهدوء مرة اخرى ويطلب الاستاذ المحاضر الانتباه الى جرس البديء بالاجابة على الاسئلة الموزعة قبل الحادث ...
فوجيء المحققون الخاضعون للامتحان ان الاسئلة تخص تلك الحادثة وعلموا ان الحادثة مفبركة من اجل معرفة دقة ملاحظة المحققين ازاء 100 سؤال عن الحادث المعد اعداد تمثيلي مسبق فكانت النتائج غير متوقعة فلم تصل نسبة الاجابات الصحيحة الى 5% بما فيها اكثر الاحداث اثارة وهي اطلاقات النار حيث اخطأ 97% منهم في عددها ونجح فقط 3% منهم بتحديد العدد الصحيح للاطلاقات النارية ويقول مدير الدورة وهو بدرجة بروفيسور انني اشك ان الـ 3% كانوا على يقين في عدد الاطلاقات وربما جاء العدد تخمينيا ..!!
هذه التجربة يمكن ان نرى مثيلاتها في حياتنا اليومية حيث يكون من المؤكد ان لا يتفق اثنان بشكل تام في رؤية وتحليل ما يجري امامهما من حدث وبالتالي فان صفة الشخصنة العقلية تكون سببا مباشرا في متاهات العقل الجماعي الذي يستوجب توحيد رؤيته لمرابطه المجتمعية والتكوينية مع محيطه الكوني من خلال المادة الدينية لان العقل الانساني الشخصي ... جبان ...!!
العقل البشري لا يمتلك صفة الاطلاق في دقة ملاحظته للاشياء والاحداث سواء كان في مختبر علمي او كان في شارع مدينته يسير على الطرقات او عندما يكون مسؤلا عن اتخاذ قرار يعتمد على دقة وقوة الملاحظة ..
ذلك الجبن في الملاحظة يجعل من الانسان يتكيء على عقل الاخرين في تكوين كتلة عقلانية تقيم للملاحظة وزنا مقبولا عند العقول البشرية ... هذه الظاهرة استشرت في المجتمعات العلمية واصبحت الرؤيا والملاحظة جماعية (فريق بحث) يتساند فيما بعضه ليقول ثابتة ... كما انتشرت بشكل كبير في الحياة المدنية فكل شيء يستوجب دقة الملاحظة تتصدى له (لجنة) لرفع الجبن الفردي في تكوينة العقل حتى في القضاء لجنة قضاة او لجنة خبراء او في الطب حيث اصبح الطبيب لا يثق بتشخيصه للحالة المرضية واصبح في زماننا يحتاج الى مزيد من الفحص المختبري ليكون اقل جبنا في التشخيص (دقة الملاحظة) ...
صفة الجبن في العقل الانساني موصوفة بصفة معروفة تقول (الشك مدخل اليقين) ولكن تجربة البشرية بعد رحلة حضارية افرزت في زمننا المعاصر ان اليقين هو (لا يقين) حيث استطاع علم الاحصاء ان يفضح كثيرا من المستقرات الثابتة لقائمة طويلة من الاستخدامات الدوائية او الانشطة الانسانية التي افرزت اختناقات تهدد البشرية بالضياع ... ذلك لان عقل الانسان جبان .. واذا اعترف بصفة الجبن فيه فعليه ان يشد الرحال العقلاني الى خالقه ويسمع ما يقوله الخالق في البلاغ اليقيني (لا ريب فيه)
الحاج عبود الخالدي
تعليق