النظام العام بين الغاية والوسيلة
لم يستطع فقهاء القانون وضع تعريف فقهي ثابت وموحد لـ مصطلح (النظام العام) ذلك لان مصطلح النظام العام يرتبط ارتباطا وثيقا بما يعرف بـ (المصلحة العامة) وبما ان المصلحة العامة تختلف بين اقليم واقليم وبين قومية وقومية او بين عقيدة دينة واخرى وبين الانظمة السياسية المختلفة في اهدافها غاياتها ادى الى اختلاف المعايير المحددة لمجمل المصلحة العامة ورديفها الفقهي (النظام العام) وبما ان بناء وبنية القانون مبنية على فقه صياغة قانونية مسماة (الاسباب الموجبة لاصدار القانون) فان ذلك الفقه يفقد الثبات في المعالجة القانونية بشكل يخرج (النظام العام) من وصف ثابت المعالم او ثابت النفاذ بسبب عدم ثبات الاسباب الموجبة لاصدار القانون كذلك الاختلاف الحاد في الغايات التي يتم بموجبها اصدار القانون وعلى ذلك المنعطف الحاد في فقه القانون اصبحت قوانين الشعوب والدول في انحاء العالم نافذة استنادا الى مدى ارتباطها بغايات قادة تلك الشعوب
الصنف الاول من القوانين تحمل صفة (الطور الموحد) او (الطور شبه الموحد) كما في قوانين الجنسية وقوانين المعاملات المدنية وغيرها وهي مبنية على (اسباب موجبة) لا تتعارض مع غايات قادة الشعوب فهي في مربع مهمل من قبل حاملي الغايات
الصنف الثاني من القوانين التي يتم اصدارها وهي تعلن عدم ثباتها من خلال منح ادارات الدولة حق واسع في (اصدار التعليمات) ومثل تلك القوانين تكون عادة قليلة المواد الا ان حق اصدار التعليمات من قبل الوزارات القطاعية قد يصل الى عشرات اضعاف المتن القانوني وبذلك تحصل ادارات الدولة على مساحة واسعة جدا من الصلاحيات في بناء غايات الجهة السياسية التي تعتلي السلطة سواء كان الحكم راديكاليا (الفكر الواحد) او كانت السلطة مبنية على النظام الديمقراطي الذي يعني (حكم الاغلبية) او كان الحكم مبني على خليط فكري سياسي يجمع بين الديمقراطية الحرة او الديمقراطية الممنهجة ضمن منهج محدد المعالم كما في الحكم الملكي الدستوري او في الدول التي تتلاعب فيها الكارتلات الاقتصادية العملاقة
خلال الربع الاخير من القرن الماضي تحول المسار القانوني في غالبية دول العالم الى اداة تغذي ارادات وغايات غير معروفة بالاسم او بالصفة فصدرت في تلك الفترة قوانين تم تمريرها على برلمانات تلك الدول حملت من الغرابة اشدها ومن الانفلات الواسع عن مضامين المصلحة العامة او مضامين النظام العام سواء كان دوليا او محليا مثل (قانون الحرب على العراق) الذي صادق عليه الكونغرس الامريكي ومن ثم صادقت عليه دول التحالف في اسوأ عملية جرت في التاريخ المعاصر سبقتها عملية احتلال افغانستان وكأن البشرية تعود ادراجها نحو القرون الوسطى المظلمة واذا كانت القرارات سياسية فان ممثلوا تلك الشعوب في البرلمانات كانت تتكيء على موضوع المصلحة العامة كوجه تنفيذي لـ (النظام العام)
عندما تتصارع الغايات يضطرب النظام العام ويصبح من الصعب ان تقوم مقومات المصلحة العامة وفق معيارها كمصلحة تمتلك عمومية نافذة في المجتمع ليكون ثمرة وضوح المصلحة العامة غاية مجتمعية مؤكدة ومن ذلك الاضطراب الوظيفي للمصلحة العامة يختل النظام بصفته (نظام) ذا وظيفة مجتمعية مستقرة وعندها تتحول القوانين الى عصا انضباط تخدم الحاكم او السلطة الحاكمة ويتم تقويض كافة القواعد التي ترسم الطريق الى مجتمع ءامن بكامل محتويات الامن من الامن الاقتصادي او الامن الغذائي او الامن المجتمعي ولعل ما حصل في دول الربيع العربي حالة مأساوية افرزت نوعا جديدا من الثقافة القانونية ففي مصر مثلا تفعلت قوانين نافذة ادت الى اعتلاء فئة محددة الى دست الحكم وحين تمت الاطاحة بتلك الفئة كانت القوانين هي نفسها التي حاكمت السلطة التي اطيح بها عسكريا وكلا الطرفين (الغالب والمغلوب) ينادي بالمصلحة الوطنية العامة ويسعى الى رفع معدلات النظام العام برفعة (النظام) الا ان (غاية كل طرف) كانت تجعل من المصلحة العامة محتوى ملون بلون ترتضيه هذه الفئة وترفضه الفئة الاخرى مما جعل من المصلحة العامة مطية تحمل غايات فئوية متصارعة استنادا لغاياتها وجعلت من المصلحة العامة وسيلة غائية خارج مضمون العمومية
ما صدر قانون الا وهو مذيل بـ (استنادا للمصلحة العامة) وما صدرت تعليمات وزارية او اوامر ادارية الا وكانت مستندة الى بند قانوني الا ان الاقاليم او الدول التي تعاني من تدهور في النظام العام تشهد بشكل واضح تدهور المصلحة العامة وطغيان مصالح اخرى غير عامة وبقيت المواطنة والمواطن والوطن وكأنها عملة غائية تستثمر من قبل غايات ومصالح بعيدة عن مصلحة الوطن والمواطن مما يجعل من دستورية القوانين في كافة ارجاء الارض دستورية غير امينة لجماهيرها ويبقى القانون المستقر المستند الى فقه النظام العام ضائع على فقه القانون في اكثر البلدان زعما للحضارة ومثل ذلك المنعطف الخطير يسجل تراجع حضاري خطير ينذر بوقوع كارثة مجتمعية مرتقبة بعد ما رأينا موجات متلاحقة من التدهور المجتمعي في مجتمعات شتى في الارض واصبحت الحقيقة ضائعة على الجماهير اينما كانوا (عدا بعض الاستثناءات)
الوعي الجماهيري لحقيقة فقه القانون لا تزال حميدة الصفة الا ان تدهور النظام العام سجل طعنة حضارية كبرى عند احتلال فلسطين في بداية الغزو الحضاري للدول التي كانت لا تزال في نظامها القديم الا ان حادثة اسر فلسطين وشعبها ومن ثم قيام نظام يدعي العقائدية اليهودية قد قوض بشكل كبير دستورية نشأة القانون ودمر انسانية الانسان كيفما كان شكله مما يجعل الامل في عودة الدستور القانوني الى سابق عهده في رعاية المصلحة العامة وارساء النظام العام املا لا يقوم الى في احلام اليقظة اما الحقيقة فهي جاهلية حضارية انتشرت في ارجاء الارض
القانون مصدر الاستقرار المجتمعي المعاصر في عموم الارض الا انه انحرف عن مساره القويم فضاع النظام العام أمميا (دوليا) واقليميا (اوطان) وان التراجع المطرد في ثبات تلك الدستورية الفقهية لـ (المصلحة العامة) ينذر بكارثة بيئية مغطاة بقوانين ظاهرها الصالح العام الا ان باطنها غير حميد الوصف
الحاج عبود الخالدي
تعليق