رسالة إلى البطريرك
حاضر بطريرك الموارنة بشارة الراعي في البرلمان الأوروبي في بروكسل تحت عنوان : "نتائج الصراع الدائر في الشرق الأوسط على المسيحيين ومستقبلهم". وحمّل في محاضرته الإسلام المسؤولية عن الخطر على (المسيحيين)، إذ ختمها بتوصيات تحت عنوان: "حلّ طويل الأمد"، دعا فيها الأسرة الدولية إلى مساعدة (الإسلام) "ليخطو الخطوة التي قامت بها المسيحية، وهي فصل الدين عن الدولة". ودعا فيها (الإسلام)، إلى أن:أ - يتحرّر من الأصولية ومن العودة إلى رسالة الشريعة ، أي الرسالة التي تتخطى تعليم القرآن .
ب - الدخول إلى عالم العصرية بأوجهه الإيجابية والانفتاح على القيم التي تقدّمها العولمة لتأمين تطوّر البلاد .
ج - تبنّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتطبيقه لضمان خير جميع المواطنين في البلدان من دون تمييز بين العرق والدين واحترام كلّ كائن بشري". (الكلام حرفيًّا من موقع الوكالة الوطنية للإعلام، 2016/4/28)
إنّ هذا الكلام الذي أورده البطريرك الراعي بلهجة الناصح الحريص ، هو في حقيقة أمره جرأةٌ على الإسلام وأهله ، وإهانة لهما . إذ نصّب نفسه موجِّهًا "للإسلام" وجعل نفسه والأسرة الدولية قيّمين عليه ، وصوّر الإسلام في صورة التائه العاجز، الذي يحتاج مساعدة غيره ، ليصل إلى برّ الأمان ، وليبلغ سنّ الرشد ! بل ومَن المخوَّل مساعدته؟! الأسرة الدولية المتمثلة في البرلمان الأوروبي الذي يخاطبه والدول الغربية التي لم تُكِنَّ يومًا للإسلام وأهله سوى العداء والحرب!
إن الإسلام يا غبطة البطريرك ليس بحاجة أحدٍ لمساعدته ، فهو دين الله تعالى الخاتم ، الذي أتى لمساعدة الناس وهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور . والأسرة الدولية التي تدعوها إلى مساعدة الإسلام هي المحتاجة مساعدةَ الإسلام وهداية شريعته . ولقد خاطبكم الله تعالى في القرآن أنتم أهل الكتاب على وجه الخصوص فقال: ï´؟
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ
فهو الذي يهديكم ، ولستم أنتم من ترشدونه. وما يحتاجه المسلمون - وليس الإسلام - اليوم هو أن يستأنفوا حياتهم الإسلامية ويطبّقوا شريعة الإسلام مجدّدًا، ليخرجوا من حالة الانحطاط التي يعيشونها منذ دهر من الزمان ، وليُخرجوكم وسائر البشرية من ظلم الحضارة الرأسمالية وعولمتها وشرعتها الدولية .
أمّا عن دعوتك إلى أن يَفصِل الإسلامُ نفسَه عن السياسة، فإنّها ليست من الحرص على الإسلام ولا أهله في شيء، لأنّ الدعوة إلى فصل الإسلام عن السياسة هي دعوة إلى تبديل الإسلام وتغييره وتحريفه وإخفاء شريعته ، ودعوة إلى انهزامه أمام الحضارة الغربية العلمانية ، كما انهزمت أمامها الكنيسة من قبل .
فالإسلام يا غبطة البطريرك حضارة شاملة . أتى بنظام شامل للحياة والمجتمع والدولة ، شاء من شاء وأبى من أبى. قال تعالى:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ
بل إنّ السياسة هي عمل جميع الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى هداية للناس، قال عليه الصلاة والسلام: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» (متّفق عليه). وقال الله تعالى مخاطبًا نبيَّه داوود عليه الصلاة والسلام: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ . وأنت تعرف يا غبطة البطريرك أنّ نبيّ الله داوود وابنه سليمان - عليهما الصلاة والسلام - كانا ملِكين على دولة حكمت رعيّتها بالشريعة التي نزلت على نبيّ الله موسى صلّى الله عليه وسلّم، وهو النبيّ الذي أوحى إليه الله تعالى التوراة، الكتاب الذي استمرّت الكنيسة تعتمده جزءًا من كتابها المقدّس تحت اسم العهد القديم حتّى يومنا هذا. فإذا قررت الكنيسة أن تفصل الدين عن الدولة بعد فشلها وهزيمتها أمام فلاسفة التنوير والعلمانية فهذا شأنها. أمّا الإسلام فله شأن آخر. وليكن واضحًا لديك ولدى الغرب الذي خاطبته في البرلمان الأوروبي، أنّ الإسلام - وهو دين الله تعالى الخالد إلى يوم القيامة - لم يكن يومًا ليتأسّى لا بالكنيسة، ولا بغيرها من الديانات أو الملل، فهو يعلو ولا يُعلى، ولن يستسلم يومًا لفيلسوف ولا لمشرّع، ولن يرمي سلاحه أمام مبادئ البشر الوضعية.
وإنّك يا غبطة البطريرك، حين تدعو الإسلام إلى التحرّر ممّا سمّيته الأصولية فهذا يشير بوضوح إلى أنّك تنسبها إلى الإسلام، إلى أن يتحرّر منها، وبالتالي فإنّ هجومك المتكرّر على الأصولية هو في الحقيقة هجوم على الإسلام نفسه! ثمّ الأخطر والأنكى دعوتُك الإسلامَ إلى أن يتخلّى عن الشريعة! وتتحفنا بأنّ الشريعة الإسلامية "تتخطّى تعليم القرآن"!!! فتعلّمنا ما الذي يتوافق مع القرآن وما الذي يتخطّاه! وكأنّك مستأمن على القرآن وحارس له، ترشد المسلمين إلى كيفية قراءته وتطبيقه! إذن، تعال يا غبطة البطريرك نعلّمك أمورًا عن شريعتنا:
إنّ شريعة الإسلام ليست شرعًا من وضع أحد، لا الصحابة، ولا المجتهدين، ولا سائر الفقهاء، ولا غيرهم. وليس في الإسلام - كما في الكنيسة - مؤسّسة دينية، أو سلطة دينية، تعطي نفسها صلاحية التشريع، لا تأسيسًا ولا تعديلًا ولا تبديلًا ولا تعطيلًا ولا تحريفًا. بل إنّ الإسلام نعى على أتباع الملل السابقة تحريفهم دين الله تعالى،
إذ أحلّوا وحرّموا من عند أنفسهم، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) وقال: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) . فالشريعة الإسلامية ما هي إلا مجموعة الأحكام التي استخرجها مجتهدوا الإسلام من نصوص الوحي المتمثّلة في القرآن وسنّة الرسول ص . ولم يأت فقهاء الإسلام ومجتهدوه بشيء من ذلك من عند أنفسهم . أمّا ما يسمّى الاجتهاد في ثقافتنا الإسلامية، فهو لا يعني أن يخترع المجتهدون أحكامًا من عند أنفسهم أو من بنات أفكارهم . وإنّما الاجتهاد بالتعريف الدقيق هو: "استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية"، أي هي بذل أقصى الطاقة لفهم خطاب الله تعالى التفصيلي في القرآن والسنّة، لاستخراج أحكام الشريعة منه. قال تعالى في القرآن العظيم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) فليتَك لم تتحفنا بنظرية انفصال الشريعة عن القرآن، وليتك لزمت غرزك، وتركت الشأن لأهله.
أمّا عن دعوتك الإسلام إلى "الانفتاح على القيم التي تقدّمها العولمة"، فإنّ هذه العولمة التي تبشّرنا بها هي الشرّ المستطير الذي ألمّ بالبشرية اليوم وأصابها بالويلات والنكبات. إنّها النظام الذي يجعل اقتصاد العالم كلّه اقتصادًا واحدًا، يخضع لنظام واحد، لا تقف أمامه أيّ حدود، لا سياسية ، ولا تشريعية ، بحيث تخضع دول العالم كلّه لتشريع اقتصادي واحد ، هو النظام الرأسمالي ، ترعى تنفيذه "منظّمة التجارة العالمية"، حيث السمك الكبير يبتلع السمك الصغير ، وحيث تتركّز ثروة البشرية في أيدي حفنة من حيتان المال لا يتجاوزون الواحد بالمائة من سكان العالم . العولمة هذه يا غبطة البطريرك ، تجعل اقتصاد الشعوب المستضعفة وثرواتها - بما فيها شعبك في لبنان - نهبًا للشركات الكبرى التي ترعاها الولايات المتّحدة الأمريكية وشركاؤها في العالم . أهذا ما تدعو الإسلام إلى التسليم له والانصهار فيه؟!
أمّا إن كنت تعني بالعولمة معناها الطارئ عليها ، وهو أن تتحوّل البشرية إلى اعتناق منظومة واحدة من المفاهيم والقيم والتشريعات - وهي بالطبع منظومة الحضارة الغربية ، وهذا ما دعوت إليه بوضوح حين دعوت الإسلام إلى "تبنّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتطبيقه"- فهذا بكلّ وضوح يعني أنّك تدعونا إلى محو إسلامنا الذي هو حضارة متميّزة قائمة بحدّ ذاتها من الوجود، بأن يذوب في منظومة الحضارة الغربية. وهذه بالطبع ليست دعوة حريص ولا دعوة مخلص للإسلام وأهله، يا صاحب الغبطة .
ثم يا غبطة البطريرك ، هل خطر ببالك - وأنت تحاضر في أعضاء البرلمان الأوروبي داعيًا الإسلام إلى الانصهار في عولمة الحضارة الغربية - أنّ من بين هؤلاء النوّاب من ألّف الكتب والمقالات يدقّ ناقوس الخطر من غول العولمة الذي لم يترك لأمّة خصوصيةً ولا حرمةً ولا شخصيةً مستقلّة؟!
إنّنا يا غبطة البطريرك نبشّرك بأنّ عولمة الحضارة الغربية لن تبلغ غايتها، ولن تحقّق مأربها ، وأنّ الحضارة الإسلامية التي لطالما شكّلت المنافس اللدود لها تتأهب لوراثتها وطيّ صحيفتها عمّا قريب بإذن الله تعالى . فيا ليتك تبيّض الصحائف بدل تسويدها ، ويا ليتك اكتفيت بأن تكون بطريركًا للموارنة ، بدل أن ترشد المسلمين في دينهم وتنصحهم فيه .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ
تعليق