بسم الله الرحمن الرحيم
هبوط الفقه الإسلامي
هبوط الفقه الإسلامي
بعد تلاميذ المجتهدين جاء اتباع المذاهب ومقلدوها، فلم يستمروا على الطريقة التي سار عليها الأئمة وأصحاب المذاهب في الاجتهاد واستنباط الأحكام، ولا على الطريقة التي سار عليها تلاميذ المجتهدين من تتبع الدليل وبيان وجه الاستدلال والتفريع على الأحكام وشرح المسائل. وإنما عني أتباع كل إمام، أو علماء كل مذهب، بالانتصار لمذهبهم، وتأييد فروعه وأصوله بكل الوسائل. فلم يعنوا بتتبع صحة الدليل وترجيح الدليل الراجح على المرجوح ولو خالف مذهبهم، وإنما كانوا تارة يعنون بإقَامة البراهين على صحة ما ذهبوا إليه وبطلان ما خالفه. وتارة كانت عنايتهم منصرفة إلى تأييد مذهبهم بالإشادة بالأئمة وأصحاب المذاهب، فشغل ذلك علماء المذاهب وصرفهم عن الأساس الأول وهو القرآن والحديث، وصار الواحد منهم لا يرجع إلى نص قرآني أو حديث، إلا ليلتمس فيه ما يؤيد مذهب إمامه. وبهذا حصرت أبحاثهم في مذاهبهم وفترت هممهم عن الاجتهاد المطلق، وعن الرجوع إلى المصادر الأساسية لاستمداد الأحكام منها. وحصرت همّهم في الاجتهاد في المذهب، أو في المسألة الواحدة منه، أو تقليده تقليدا دون تبصّر. وبلغ من تقليدهم أن قالوا: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا أي مذهبهم فهو مؤول أو منسوخ. وجعلوا تقليد مذهب من المذاهب فرضا على المسلم، وأخذوا يدرسون ذلك في المعاهد الإسلامية كالأزهر الشريف، يقول صاحب جوهرة التوحيد في وجوب التقليد:
وواجب تقليد حبر منهمُ كذا حكى القوم بلفظ يفهمُ
بل ذهبوا إلى إقفال باب الاجتهاد على المسلمين، وقالوا بعدم جواز الاجتهاد، حتى صار كثير من العلماء ممن هم أهل للاجتهاد، وتوفرت فيهم أهلية الاجتهاد لا يجرؤون على الاجتهاد، وعلى القول أنهم مجتهدون. وقد بدأ هذا الانحطاط في أواخر القرن الرابع الهجري. إلا أنه كان في أول الأمر حتى نهاية القرن السادس الهجري وأوائل السابع، فيه شيء من الارتفاع. فقد وجد مجتهدون ووجد علماء في الوقت الذي كان أمثال القفّال يقولون بقَفل باب الاجتهاد. ولكنه منذ أوائل القرن السابع الهجري حتى أواخر القرن الثالث عشر الهجري كان انحطاطا تاما ، ولكنه كان في حدود الإسلام، فكان
الانحطاط في التفكير، ولكن الآراء الفقهية كانت آراء إسلامية. أما بعد أواخر القرن الثالث عشر أي منذ سنة 1274 هـ حتى الآن، فقد وصل الانحطاط إلى حد أن خلطت الأحكام الشرعية بالقوانين غير الإسلامية ووصل الحال إلى أبعد حد من حدود الانحطاط. وقد كان جراء هذا الانحطاط الفقهي، أن جر إلى عسر حمل الناس على إعمال الأحكام الشرعية. فبعد أن كانت الشريعة الإسلامية تسع العالم بأسره جعلوها تضيق عن أهلها، حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها من القوانين الأخرى، فيما لا يرتقي إليها. وأصبح كثير من الأتقياء من المسلمين يتخاصمون إلى شريعة غير الشريعة الإسلامية. وكان في أواخر الدولة العثمانية من الجهل بالإسلام ومن جمهلة الفقهاء، ما كان السبب الأكبر في تأخر المسلمين وزوال دولتهم. فقد كان هنالك فقهاء جامدون مستعدون للفتوى بتحريم كل جديد، وتكفير كل مفكر. ومن طريف ما وقع في ذلك من المضحكات المبكيات أن ظهرت قهوة البن فأفتى بعض الفقهاء بتحريمها، وظهر الدخان فأفتوا بتحريمه، ولبس الناس الطربوش فأفتى الفقهاء بتحريم لِبسه، وظهرت المطابع وعزمت الدولة على طبع القرآن الكريم، فحرَّم بعض الفقهاء طبعه، وظهر التلفون فحرم بعض الفقهاء التكلم به، وجرت غير ذلك أمور، حتى آل الأمر في الفقه الإسلامي أن جهل جهلا تاما عند المسلمين. وقد تحول الأمر من دراسة الأحكام الشرعية إلى دراسة القوانين الغربية، وأنشئت مدارس الحقوق، تلك المدارس التي يعتبر وجودها في بلاد المسلمين لطخة عار عليهم وفي أواخر الدولة العثمانية وقد كانت الدولة الإسلامية ورئيسها خليفة المسلمين عمدوا للفقه الإسلامي يقلدون به الفقه الغربي في التقنين. فوضعواالمجلة سنة 1286 هجرية قانونا مدنيا وصدرت الإرادة السنية بالعمل بها في سنة 1293هـ، وكانوا قبل ذلك قد وضعوا قانون الجزاء سنة 1274هـ وجعلوه محل الحدود والجنايات والتعزير، ووضعوا قانون التجارة سنة 1276 هـ ثم وضعوا الدستور لإلغاء نظام الخلافة كله سنة 1294هـ. ولكنه ألغى ثم أعيد سنة 1326 هـ الموافق سنة 1908 م. ولكنهم حاولوا التوفيق بينه وبين الإسلام وأبقوا نظام الخلافة. وهكذا انحط الفقه وتحول إلى قوانين وتركت الأحكام الشرعية وأخذت الأحكام من غير الإسلام بحجة موافقتها للإسلام، وسادت فكرة خاطئة أن كل ما يوافق الإسلام يؤخذ من أي إنسان، وانحطت همم العلماء وصاروا في جَلتهم مقلدين. إلا أن ذلك كان يرى فيه ظل للإسلام، ولكن بعد زوال الخلافة، واستيلاء الكفار من الإنكليز والفرنسيين على البلاد، ثم صيرورة البلاد الإسلامية دولا على الأساس القومي، عربيا كان أو تركيا أو إيرانيا أو غيره، محي الفقه الإسلامي من الوجود في علاقات الناس، ومن التعلم والتعليم، ولم يبق يدرس إلاّ في بعض البلدان كالأزهر في مصر وكالنجف في العراق وكجامع الزيتونة في تونس، إلا أنه يدرس كما تدرس الفلسفة اليونانية. وبلغ الانحطاط حدا فظيعا إذ زال الفقه الإسلامي من الوجود في علاقات المسلمين.
السلام عليكم
تعليق