السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فاتحة سورة البقرة :الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
ملاحظة: هذا الموضوع عبارة عن تصرف في بعض منشورات المعهد
لقد قيل في الحروف المقطعة في فواتح بعض سور القرءان الكريم أقوال متعددة قديما وحديثا، وكل ما قيل فيها يشير إلى أن مدرسة تفسير القرءان الكريم حتى الآن عاجزة عن إعطاء القول الفصل في هذه الحروف، وهذا العجز يعتبر طبيعيا وليس انتقاصا من شأن أهل التفسير، وذلك لأن القرءان الكريم يمثل البرنامج الكامل والشامل لجميع خلق الله إلى يوم القيامة، ولا يمكن أن يكتمل تفسيره في حقبة زمنية واحدة بل يتناسب مع الحاجة إليه في كل زمان ومكان حتى إذا اكتمل تفسيره يكون قد اكتمل مع اكتماله برنامج الخلق فتقوم القيامة.
وبما أن الكثير من آيات القرءان الكريم يختلف فهمها من جيل إلى جيل فهذا يعني أن الحاجات المتجددة هي التي تدفع الباحث في القرءان للفهم المتعلق بالحاجات المتجددة، فمثلا عندما قيل أن الحروف المقطعة هي أسماء للسور التي ابتدأت بها كان هذا الفهم كافيا لتلك الفترة، وعندما قيل أنها تمثل خامة اللسان العربي وأنها مادة الكلام وأن القرءان يستفز عقول البشر أن يأتوا بمثله من خلال هذه الخامة المتوفرة بين أيديهم كان هذا الفهم كافيا لتلك الفترة وكلها أقوال مقبولة في فترة لم تقم الحاجة فيها لفهم أكبر وأوسع من ذلك. ولذلك يمكن اعتبار كل ما قيل في هذه الحروف صوابا في وقته ما لم يخالف وصف القرءان بأنه إنما نزل بلسان عربي مبين. أما ما قيل عن هذه الحروف أنها بلغة غير العربية كالآرامية أو السريانية أو غيرها فهي أقوال باطلة لأنها تخالف نصوصا قطعية في القرءان وأنه عربي اللسان حصرا.
الحروف المقطعة جميعها مسميات لحروف عربية ولا يجوز إخراجها من دائرة اللسان العربي بل والعربي المبين (بلسان عربي مبين) وهي تمثل نصف حروف العربية جمعها أحدهم في عبارة (نص حكيم قاطع له سر) فالنون حرف عربي والصاد عربي وهكذا جميع هذه الحروف، ويقال مثل ذلك في بقية الحروف التي لم يستعملها القرءان في فواتح السور كالباء والتاء والثاء. وقد قيل بأن الحرف المفرد ليس له معنى في ذاته وإنما يظهر المعنى عند جمع أكثر من حرف لتشكيل كلمة فيكون للكلمة معنى. وهذا القول فيه نظر وهو كمن يقول أن الحجر بوصفه وحدة بناء الحائط أو البيت لا قيمة له إلا بعد أن يوضع في موقعه في الحائط أو البيت وهذا القول مردود لأن الحجر هو وحدة بناء فقد يكون وحدة بناء لجدار أو وحدة بناء حائط أو سور أو حتى رصيف شارع فمعناه قائم في ذاته لكن وظيفته لا تظهر إلا بعد وضعه في موضعه تماما ، فإن لم يوضع في موضع أو وضع في غير موضعه يبقى معناه قائما في ذاته من غير وظيفة ، وكذلك الحرف له معنى قائم في ذاته ولا تظهر وظيفته إلا إذا وضع في موضعه في كلمة، فمثلا الحاء حرف والميم حرف الدال حرف ولكل حرف منها معنى قائم في ذاته لكن وظيفته لا تظهر إلا إذا وضع في موضعه من الكلمة ، فعندما نقول: (حمد) قامت وظيفة هذه الحروف في بيان معنى الحمد ، لكن عندما نقدم ونؤخر في هذه الحروف فإنه يظهر معنى مخالف لمعنى الحمد أو لا يظهر معنى أصلا فإذا قلنا (مدح) ظهر بيان معنى المدح وهو غير الحمد قطعا. لكن إذا قلنا مثلا (دمح) لم يظهر بيان أي معنى أو يظهر بيان معنى غير دارج على اللسان ، كمن يضع الحجر في غير موضعه من البنيان تماما. لذلك يمكن القول بأن لكل حرف من الحروف معنى ووظيفة فالمعنى قائم في ذات الحرف ووظيفته تظهر البيان عند جمعه مع حروف أخرى لتشكيل كلمة ذات معنى .
معنى الحرف القائم في ذاته يظهر بشكل واضح في الحروف التي لا تشكل جذر الكلمة وذلك مبسوط في علم الصرف وفي الميزان الصرفي فعندما نقول مثلا (حمد) فإنها تدل على فعل الحمد أو مصدره بحسب تشكيل الحروف ، لكن عندما نقول (حامد) فإن المعنى وإن كان يشترك مع الجذر في قصد الحمد إلا أن فيه معنى زائدا عن (حمد) وهذا المعنى دل عليه حرف الألف ، وإن قلنا (حميد) فإن المعنى يختلف عن (حمد وحامد) وهذا المعنى الجديد إنما دل عليه حرف الياء ، وإن قلنا أحمد ومحمود ويحمد وتحمد فإن معان أخرى سوف تظهر، مما يدل على أن الحرف يحمل معنى في ذاته وتظهر وظيفة هذا المعنى بحسب موضعه من الكلمة.
ولذلك فإن كلمة (كتاب) ليست ككلمة كتابي وكتابك وكتابهم وكتابها وكتابهن وكتابهما ، وهذه الكلمات وإن اتحدت في القصد في معنى الكتاب إلا أنها تضمنت معنى آخر وهو نسبة هذا الكتاب أو ملكيته أو تبعيته .
إذا ثبتت هذه المقدمة فإننا نستطيع أن ننطلق بحذر شديد لفهم فواتح سور القرءان الكريم من خلال تحديد معنى كل حرف من هذه الحروف بحسب موضعه في كلمات القرءان حصرا وذلك لأن كلمات القرءان ثابتة وتوقيفية ومحفوظة بحفظ الله سبحانه ، وسوف نحاول أولا فهم معاني حروف فاتحة سورة البقرة (الم) باستحضار مواضعها في كلمات القرءان الكريم ، وهذه المعاني التي سوف نصل إليها بإذن الله تعالى لا ندعي بأنها معان قطعية بل قابلة للنقاش والتعديل بل والتغيير بحسب طريقة الاستدلال وأسلوب العرض ، مع تقرير حقيقة لا يمكن الرجوع عنها وهي أن لكل حرف معنى قائما في ذاته نحاول أن نصل إليه .
حرف الألف
المقصود بحرف الألف هنا هو الحرف المدي الخارج من الجوف والذي وصفه الإمام الشاطبي بـ (الهاوي) وهو غير الهمزة إذ الهمزة في القرءان ليس لها رسم خاص وإنما تكون برسم الألف كما في (سأل) أو برسم الواو كما في (يؤمنون) أو برسم الياء كما في (بئس) أو من دون رسم كما في (السماء). ولذلك فإن فاتحة البقرة تبدأ بحرف الألف وليس الهمزة فما معنى حرف الألف في كلمات القرءان:
في علم الصرف جعل العلماء من الفعل الثلاثي المجرد ميزانا صرفيا ثلاثيا ثابتا لا يتغير بالزيادة وإنما تضاف هذه الزيادة على الفعل المجرد كما هي ، فقالوا: فعل فاعل مفعول مفاعيل مفعل مستفعل فعلا فعلوا ، فالحروف الأصلية تبقى ثابتة لأنها الميزان ثم يضاف عليها الزوائد . ومن تتبع زيادة حرف الألف على الجذر (فعل) يتبين أن هذا الحرف يدل على معنى الفاعل أي فاعل الفعل فنقول حمد حامد ، سأل سائل، قام قائم وهكذا، فـ (حامد) هو فاعل الحمد ، و(سائل) هو فاعل السؤال ، و(قائم) هو فاعل القيام . لذلك فإن الألف تؤدي معنى الفاعل أي القائم بالفعل .
حرف اللام
لو استعرضنا بعض كلمات القرءان التي تشتمل على حرف اللام وقارنا بين معانيها سوف يتبين لنا القصد العقلي لحرف اللام :
ورد في القرءان الكريم الكلمات التالية: (عمل ، فعل ، قول ، لعب ، لهو، ليل ، لا ، ليس ، قلب) وغيرها كثير.
(عمل ، فعل) يشتركان في حرف اللام وحرف العين ويختلفان في حرف الميم وحرف الفاء ، وهذا يدل على أنهما يشتركان في قصدين ويختلفان في قصد واحد ، لذلك فإن التفريق بينهما دقيق للغاية ، قال تعالى:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. وقال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا.
العمل والفعل كلاهما حراك مقصود لأن الله سبحانه قد رتب عليهما الثواب والعقاب ، وكل حراك غير مقصود فلا ثواب عليه ولا عقاب ، لذلك فإن كل حراك خلقي لا يدخل في دائرة الفعل والعمل ، والحراك المقصود في الإنسان نوعان:
الأول : حراك ناتج عن مشغل أي أن له دافعا أو محركا أو مسيرا له ، وهذا المسير هو وجهة نظر الإنسان في الحياة ، فالمسلم يكون مشغل حراكه هو الحكم الشرعي بينما غير المسلم يتحرك في الحياة بناء على وجهة نظره.
الثاني: حراك يستبدل هذا الحراك بحراك آخر ، فمثلا الأصل في الموالاة أن تكون لله ورسوله وللمؤمنين وهو حراك ناتج عن حكم شرعي هو المشغل له ، فإذا والى المسلم غير الله ورسوله والمؤمنين يكون قد استبدل الحراك الناتج عن مشغل الموالاة بحراك آخر وهو موالاة الكافرين . ومثلا النجوى من الشيطان ومشغل تلك النجوى هو الحكم الشرعي ، أي هي حراك ناتج عن الحكم الشرعي ، فإن استبدل الانسان حراك النجوى بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون قد استبدل الحراك الناتج عن المشغل بحراك آخر.
والمدقق في آيات القرءان التي ذكرت العمل والفعل بأي صيغة كانت يجد بسهولة أن العمل هو كل حركة ناتجة عن مشغل ، ويرى أن الفعل هو حراك يستبدل ذلك الحراك. وبهذا نستطيع التفريق بين العمل والفعل فالعمل هو حراك ناتج عن مشغل بينما الفعل هو حراك يستبدل ناتج .أي أن:
حرف اللام في القصد العقلي يعني الحركة أو الحراك أو النشاط
حرف العين يعني في القصد العقلي الناتج أو النتاج أو النتيجة
حرف الميم يعني في القصد العقلي المشغل أو التشغيل أو المحرك أو المسير
ولتركيز معنى حرف اللام في القصد العقلي نستعرض بقية الأمثلة:
الـ (قول): هو عبارة عن الحروف والألفاظ والجمل التي يضغطها المتكلم في جهازه الصوتي وينقلها إلى خارج فمه ليسمعها الآخرون ، فهو عبارة عن حراك منقول من المتكلم إلى السامع . أي أن حرف اللام دل على الحركة والنقل.
الـ (لعب) واضح أنه حراك من نوع معين أو هو حراك غير منتج فيكون معنى اللام هو نفي النتاج.
الـ (لهو) هو حراك أيضا لكنه حراك فيه ثبات لارتباط الانسان به.
الـ (ليل) فيه حراكان لوجود اللامين في اللفظ وهذان الحراكان هما انتقال الشمس من الشروق إلى الغروب ، وانتقالها من الغروب إلى الشروق فيكون الليل هو المسافة الزمنية بينهما ، فيكون معنى اللام هو حركة نقل.
لا: تستعمل للنفي والنهي والنهي في حقيقته طلب نفي ، فيكون معنى اللام حراك نفي.
ليس: أيضا فيها معنى النفي
القلب: يقوم بالانقباض لنقل الدم إلى الجسم، فيكون معنى اللام حراك نقل.
وهكذا لو تتبعنا جميع كلمات القرءان التي تشتمل على حرف اللام نجد فيها المعاني التالية: الحركة أو الحراك والنشاط والنقل والنفي.
حرف الميم:
من خلال الحديث عن لفظة (عمل) تبين أن معنى الميم في القصد العقلي هو: المشغل أو المحرك والمسير، ولتركيز هذا الفهم نعرض بعض الأمثلة:
مر على قرية:
مر: أي قام بتشغيل فعل المرور، وعند ضم الميم يكون للفظ معنيان الأول هو الطعم المر والثاني صيغة الأمر للمرور، ففي الأول يظهر معنى تشغيل الطعم وفي الثاني يظهر معنى طلب تشغيل فعل المرور.
مقام: فيها معنى تشغيل فعل القيام
مكرم: فيها معنى تشغيل الكرم
أمر: فيها معنى تشغيل الأمر
حمد فيها معنى تشغيل الحمد
وقد يظهر المعنى التشغيلي لحرف الميم بشكل أوضح عندما تكون اللفظة اسم فاعل للفعل المزيد وذلك مثل موظف مغرم مبلس مسيطر، فالموظف هو مشغل الوظيفة والمغرم مشغل الغرم والمبلس مشغل البلس والمسيطر مشغل السيطرة وهكذا ، فيكون معنى الميم في القصد العقلي هو التشغيل والتحريك والتسيير للفعل أو الصفة.
معنى الم
بعد أن اتضح معنى هذه الحروف في القصد العقلي نستطيع القول بأن معنى هذه الفاتحة هو (فاعلية حراك تشغيلي) وهذه الفاعلية للحراك التشغيلي التي افتتحت فيها هذه السورة يجب أن تظهر في جميع مفاصل السورة وليس في الآية الأولى فقط ، وهي مرتبطة ارتباطا عضويا في جميع آيات السورة بما فيها قصة البقرة الصفراء.
قال تعالى: ذلك الكتاب لا ريب فيه. ولم يقل هذا الكتاب مع أن الإشارة تقضي بأن يكون (هذا الكتاب) خاصة أثناء نزوله ، وفرق كبير بين هذا وذلك ، مما يعني أن فاعلية الحراك التشغيلي تظهر في ذلك الكتاب وليس في هذا الكتاب ، وهي فاعلية تأتي في الزمن القادم وليس في زمن نزول القرءان ، وهذا يعني أن فاعلية الكتاب التشغيلية سوف تبقي قائمة إلى يوم القيامة بحيث يظهر من هذه الفاعلية بقدر الحاجة ، فكلما تجددت الحاجة ظهرت فاعلية الكتاب بقدر هذه الحاجة ، ويبقى الكتاب مشارا إليه بـ (ذلك الكتاب) إلى يوم القيامة أي إلى أن تنقضي جميع الحاجات. فما هو ذلك الكتاب؟
إن لفظ الـ (كتاب) لم يرد على رسم واحد في القرءان مما يجعل حتما له بيانا مختلفا.
الرسم الغالب لـ (كتاب) من غير ألف بعد التاء(كتب) مع ألف صغيرة خنجرية فوق التاء(زيادة وليست من الرسم).
لكن وردت الألف بعد التاء (رسما) في أربعة مواضع هي:
لكل أجل كتاب (الرعد38)
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم. (الحجر4)
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك. (الكهف27)
طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين. (النمل 1)
فما هي الراشدة التي يمكن أن نمسك بها من خلال هذا الرسم؟
كتاب ... في علم الحرف يعني (قبض ماسكة) لـ (فاعلية محتوى)
كتب .. في علم الحرف يعني (قبض ماسكة) لـ (محتوى)
الفرق بين اللفظين أن لفظ (كتب) من غير ألف لا يحمل فاعلية لغرض البحث عنها بل القانون الإلهي المسطور في ملكوت السماوات والأرض يكفي لقراءة ما كتبه الله في الخلق ، حتى في (نظم الخلق) التي ليس لها (فاعلية) مثل (الموت) فـ عند الموت تتوقف فاعلية الجسد البشري وتختفي عقلانيته ولا توجد فاعلية مرئية عند الميت !! ومثلها كثير من النظم ليست ذات فاعلية آنية مرئية مثل عاقبة المجرمين والمكذبين والكافرين والظالمين فهي نظام الهي يتفعل بعد حين إلا أن النظام الإلهي يتم رصده حتى وان كان بلا حراك أو فاعلية (كتب الله في الخلق) وهو (صر’ط الله المستقيم) وهو لم يتحول بعد إلى (كتاب) مثل المرض فـ المرض له أوليات لا تزال غير فعالة لأنه لا يزال قانونا غير فعال إضافة إلى أن الجسد يتحمل مساوئ الغذاء أو المواد الضارة إلى حين وصول السوء إلى مرحلة لا يستطيع الجسد مقاومتها فالسوء حين يعبر سقف قدرات الكبد والكلى وغيرها من الأعضاء التي تحمي الجسد من السوء تبدأ فاعلية المرض فيكون (كتاب المرض) وقبله كان (كتب المرض) الذي كتبه الله سبحانه كقانون إلهي في ملكوت السماوات والأرض
أما كتاب بالألف فهو يعني الإمساك بقانون وهو ما يقع بين يدي القادرين على قرائة الكتاب (أهل الكتاب) فحين اكتشف (نيوتن) الجاذبية إنما اكتشف سقوط الأشياء وليس طيرانها وفعل محتوى هذا السقوط بما يسمى (قوانين الجاذبية) والتي قال فيها إن (كل جسمين في الكون يتجاذبان بينهما طرديا مع كتلتيهما عكسيا مع مربع المسافة بينهما) فهي (فاعلية جذب) لذلك فإن كتاب الجاذبية هو المحتوى الفاعل الذي أمسك به نيوتن بمعنى أن هذا القانون كان قبل ذلك (كتب الجاذبية) وبعد اكتشافه تفعل وصيغت له القوانين فأصبح (كتاب الجاذبية)
عند تطبيق هذا الفهم على المواضع الأربعة التي رسمت فيها الألف في لفظ (كتاب) نجد ما يلي:
1 ـ لكل اجل كتاب: الأجل هو ميقات معلوم لم يأت بعد أي أنه مؤجل إلى ميقات معلوم فهو غير مفعل ما دام آجلا، أما إذا جاء الميقات المعلوم فإن فاعلية الأجل تقوم عند مجيئه فمثلا الموت فإن الرجل يموت بفاعلية الموت عند استحقاقه لان اجله تحقق.
ومثله اجل الدين فحين يأتي الأجل تقوم فاعلية قبض قيمة الدين من المدين للدائن، وهكذا.
2 ـ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم: فان الهلاك هو فاعلية تقوم عند الوقت المعلوم، بعد أن كانت غير قائمة.
3 ـ طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين: القرءان هو دستور الخلق والكتاب هو الوعاء التنفيذي لهذا الدستور وهذه النفاذية لها فاعلية نافذة في الخلق، فالشيء النافذ في الخلق يحمل فاعلية لأنه نافذ مثل قانون الجاذبية النافذ، وقوانين الحركة النافذة وقوانين الحياة في الخلية الحيوانية والنباتية النافذة ومثل قوانين المجتمع كقانون العقوبات والأحوال الشخصية وغيرها، فهي قوانين تتفعل عند تحقق الحالة التي تنطبق عليها أي أن فاعليتها تظهر عند التطبيق، فقبل ظهور فاعليتها تكون (كتب) وحين تتفعل تكون (كتاب)
4 ـ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك: عملية التلاوة هي بحد ذاتها (فاعلية) توجب أن يكون اللفظ (كتاب) بألف ظاهرة لان التفعيل في تلاوة الآيات يوجب ظهور الألف في اللفظ وهي (فعل تلاوة كتاب ربك).
إذن المقصود بـ (الم ذلك الكتاب) فاعلية الحراك التشغيلي لقوانين الخلق التي سطرها الله تعالى والتي يمسك بها الإنسان تباعا حسب الحاجات المتجددة إلى يوم القيامة ، فهي تبقى (كتب) من غير ألف فإذا ظهرت فاعليتها أصبحت (كتاب) بالألف.
لا ريب فيه
وردت اشتقاقات كلمة ريب في القرءان الكريم ستا وثلاثين مرة (ريب ، ارتابوا ريبهم ، يرتابوا ، مريب: ريبة مرتاب ،...) ولم يخرج معنى هذه الكلمة في كتب التفسير ومعاجم اللغة عن معنى الشك والظن والتهمة وبعض المعاني الأخرى التي تدور حول هذه المعاني .
إذا عرفنا أن معنى الكتاب هو جميع القوانين التي سطرها الله تعالى في خلقه والتي يمسك بها الانسان تباعا حسب حاجاته فإن ظهور هذه القوانين أو الامساك بفاعليتها لن يتوقف إلى يوم القيامة بل في كل لحظة سوف تظهر فاعلية قانون أو أكثر من قوانين الخلق ، فيكون معنى لا ريب فيه أي لا توقف في حيازة قوانين الخلق إلى يوم القيامة .
هدى للمتقين
هذه قضية عقلية ضخمة جدا ومتشعبة إلى ثلاث شعب:
الشعبة الاولى: (الم) أي فاعلية الحراك التشغيلي تجعل الإنسان دائم النشاط العقلي وإثارة القضايا وتقليب الأمور لحل ألغاز الكون ومعرفة دقائق الخلق.
الشعبة الثانية: (ذلك الكتاب) أي القوانين المسطورة في الخلق تمثل قضية عقلية كبرى عند المتقين حتى لو لم تظهر لهم فاعليتها ولم يفهموا سرها ، لكنهم يسعون للفهم دائما لإظهار فاعلية تلك القوانين.
الشعبة الثالثة: اللاريب في الكتاب فيها الأمل عند المتقين أن تلك القوانين سوف تظهر فاعليتها في يوم من الأيام سواء في جيلهم أو في الأجيال القادمة فيظلون دائما في حالة من تقليب الأفكار من أجل الوصول إلى حل ألغاز الكون أو على الأقل يرسمون الطريق لمن خلفهم ليسهلوا عليهم طرق حل هذه الألغاز .
لذلك فإن (هدى للمتقين) هي فاعلية عقلية دائمة التقليب لقراءة ذلك الكتاب الذي لا تتوقف وسائل فهمه إلى يوم القيامة ، وهذا الهدى لا يكون إلا للمتقين . فمن هم المتقون؟
لا يخفى على جميع الناس ان دنيانا المعاصرة اختلفت جوهريا وجذريا عن حياة اباءنا واجدادنا بشكل شامل ولم يبق من دنيا السابقين فينا سوى المتاحف والاثار وبعض فتات من ازياء بعض الامم وبقايا من ممارسات دينيه وبقايا من مظاهر قروية او بدوية الا ان الباقين على شيء من ممارسات الماضي يحيون اليوم حياتهم معاصرة بما افاض العلم من تطبيقات في الاتصالات والزرع والصنع والملبس والمشرب ووسائل النقل ووسائل التعليم وطرق التفكير وهندسة المدن والطرقات والازياء والأكلات وغيرها
وسط زحمة حضارية متلاطمه مليئه بما هو مزخرف براق وما هو فاسد مقيت كالامراض العصرية وتدهور الاجواء نرى ان الله يطالبنا بالتقوى ويفرز المتقين عن غيرهم في منهج ما كتبه الله في نظمه وقوانيه النافذة
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } (سورة النحل 30)
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } (سورة مريم 97)
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (سورة ص 28)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } (سورة الدخان 51)
{ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (سورة الجاثية 19)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } (سورة الطور 17)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ } (سورة المرسلات 41)
قيل في لفظ المتقين على انها صفة المتمسكين بالممارسات الدينيه والصادقين القول والذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر و .. و .. و ... فصفاتهم الدينيه كثيره وهو (حق وصدق) الا ان يومنا المعاصر المليء بالمخالفات يجعل من تلك الممارسات شريكة مع حق ممارسات المتقين فتراهم صرعى بـ امراض العصر او صرعى لـ فكر المعاصرين ولن تجد الوعود الشريفه التي وعدها الله لـ المتقين فيهم ..!! فكم من رجل صالح تلقفه الموت بالسرطان او ضغط الدم او السكري وكم من رجل متقي حلت به او بكيانه كارثة ولم نجد ان الله قد دافع عنه والله يدافع عن الذين أمنوا ..!! فهل التقوى لا تزال (حالة هلامية) لا يمكن الامساك بها ام ان نظم التقوى في الزمن المعاصر غير متوفره لاننا نرصد النتيجة من الوعد الالهي في كثير من المتقين الذين انهارت كياناتهم وتعرضوا الى مصاعب كبيرة تتصف بالسوء والفساد في اجسادهم او ابنائهم او يكاناتهم فيصيبهم ما يصيب الكافرين والمجرمين سوء وفساد ظاهر !! فاين وعد الله فيهم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) !!
سوف لن نبذل جهدا فكريا حين نرى ضياع المتقين وسط الكافرين من حيث الولاية وما ينتج من تلك الولاية من صفات حميده وهي مفقوده او شبه مفقوده يقينا في زمننا ولا بد من وجود خلل ادى الى ضياع معايير التقوى رغم ان فاعليها يسعون لـ التقوى ولعل الحديث النبوي الشريف والمشهور جدا والذي جاء فيه (يأتي زمان على امتي القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة من نار) ولعلنا ندرك مصداقية الرسول عليه افضل الصلاة والسلام حين ندرك ذلك الوصف الدقيق لحال يومنا المعاصر فالحديث الشريف ان كان لا يدركه السابقون في واقع حالهم الا اننا ندرك حقيقة ذلك الوصف الشريف في يومنا الصعب والقاسي على المتدين ليس من خلال الحكام ومضايقة المتدينين فمن لا يقترب من الحكام يأمن شرهم الا ان الممارسات الحضارية التي غرقنا فيها هي التي جعلت القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار ! ذلك لاننا فقدنا السيطرة على انسياب النظم الحضارية فينا فالقبول بكل شيء حضاري سرى في ابائنا من زمن جيل الحضارة الاول لغاية اليوم عبر ثلاث او اربع اجيال مضت
استلمنا الحضارة وما انتجت من حديث مستحدث سواء كان على شكل ممارسات كـ النقل الالي في السفر او الادوية او مكونات الملبس والمشرب او غيرها من الممارسات في البناء والتعلم او اي مستحدث مصنوع او اي مستحدث فكري ومنهجي حتى اصبحنا (مستهلكين) بامتياز فائق دون تعيير او وزن ما هو مستحدث بموجب نظم الدين التي رسخت في القرءان (الثابت) عبر الاجيال لغاية ءاخر يوم فيه انسان على هذه الارض صفته (لينذر من كان حيا) وصفته ايضا (لتنذر به قوما ما انذر اباؤهم فهم غافلون)
معيار الفرز بين الحسنات والسيئات الحضارية مفقود بالكامل على ناصية فتوى شرعية قديمة تتجدد كل يوم يحتظنها فقهاء كل مذاهب المسلمين ويروجون لها الا وهي أن (اصل الاشياء الاباحه الا ما حرم بنص) وهذه الراسخة الدينيه الساريه بين المسلمين جعلت من اي محاولة لـ تعيير الممارسات الحضارية تحمل صفة (الرجعية) اي ان الرجعيين انما يطالبون بالعوده الى زمن مضى باهله ونسوا القرءان وما فيه من (علم) لان اكثر فقهاء الدين يرفضون ان يكون القرءان لـ (العلم) بل هو قرءان ينظم حياة المسلمين في ارث او صلاة او زكاة او علائق اما العلم فهو منفي تماما في ثقافة الفقه الديني عدا بعض المحاولات الحديثة التي ترفع شعار (الاعجاز العلمي في القرءان) وهي مدرسة حديثة لم تتقدم بشيء يحمل معايير فرز ما يستوجب فرزه من سوء حضاري ولم تسهم في (أسلمة الحضارة) بل تسعى لما يحمله القرءان من اعجاز سبق المتحضرين بـ 14 قرن من الزمن !! ... هنا كان ويكون مكمن الخطر الذي داهم المسلمين عبر بضعة اجيال من الحضارة .. وحين نبحث عن المعايير سنجدها في (المتقون) الذين يبحثون عن نظم التقوى بالله وفي الله من خلال نظمه الامينه
{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } (سورة الزمر 33 - 35)
ومن ذا الذي جاء بالصدق وهل الصدق له مكمن يؤتى منه (التصديق به) ..؟ وكيف لنا ان نبحث عن ذلك المكمن الذي يحمل وعاء الصدق ؟
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (سورة الأَنعام 92)
وهذا كتاب وهو (قرءان في التطبيق) فتطبيق القرءان (كتاب) وفيه مشغل (صدق) الذي بين يديه من ما كتبه الله في الخلق والخليقة لان الله صرف في القرءان من كل مثل ولم يستثن شيئا
الذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به !!! انه المعيار الذي لا يعلوه معيار وبه يقوم مشغل الصدق ومن أمن في يومه وأمن في غده انما فاز بمفازة المتقين الذين يتقوون بنظم الله وان أغرقوا في نظم الحضارة انما يمتلكون رابطأ يأتي بالصدق من عند الله في قرءانه ليكون في التطبيق (هذا كتاب مصدق لما بين يديه)
فمن يحمل القرءان لغرض التطبيق انما يرى ما بين يديه من نظم حضارية لها ذكرى في القرءان ويرى ما في القرءان الذي يقرأه مصدقا لما بين يديه من نظم أمينة صادقه وهو ما ذكرنا به النص الشريف وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا } (سورة النساء 122)
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } (سورة النساء 87)
ما كانت تلك السطور تفسيريه بل دعوة لتطبيق القرءان في زمن الحاجة الى معيار (أمين) يتم فيه تعيير النظم الحضارية لـ الامتناع عن سيئها والتمسك باحسنها وتعديل ما يمكن تعديله من ممارسة حضارية تحمل الحسن والسيء وعندها يكون لـ (المتقين) وجود اسلامي مختلف عن زمن مضى لم يكن لـ ممارسات مستحدثه جيء بها من دون الله كما هو يومنا المعاصر
لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
السلام عليكم
فاتحة سورة البقرة :الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
ملاحظة: هذا الموضوع عبارة عن تصرف في بعض منشورات المعهد
لقد قيل في الحروف المقطعة في فواتح بعض سور القرءان الكريم أقوال متعددة قديما وحديثا، وكل ما قيل فيها يشير إلى أن مدرسة تفسير القرءان الكريم حتى الآن عاجزة عن إعطاء القول الفصل في هذه الحروف، وهذا العجز يعتبر طبيعيا وليس انتقاصا من شأن أهل التفسير، وذلك لأن القرءان الكريم يمثل البرنامج الكامل والشامل لجميع خلق الله إلى يوم القيامة، ولا يمكن أن يكتمل تفسيره في حقبة زمنية واحدة بل يتناسب مع الحاجة إليه في كل زمان ومكان حتى إذا اكتمل تفسيره يكون قد اكتمل مع اكتماله برنامج الخلق فتقوم القيامة.
وبما أن الكثير من آيات القرءان الكريم يختلف فهمها من جيل إلى جيل فهذا يعني أن الحاجات المتجددة هي التي تدفع الباحث في القرءان للفهم المتعلق بالحاجات المتجددة، فمثلا عندما قيل أن الحروف المقطعة هي أسماء للسور التي ابتدأت بها كان هذا الفهم كافيا لتلك الفترة، وعندما قيل أنها تمثل خامة اللسان العربي وأنها مادة الكلام وأن القرءان يستفز عقول البشر أن يأتوا بمثله من خلال هذه الخامة المتوفرة بين أيديهم كان هذا الفهم كافيا لتلك الفترة وكلها أقوال مقبولة في فترة لم تقم الحاجة فيها لفهم أكبر وأوسع من ذلك. ولذلك يمكن اعتبار كل ما قيل في هذه الحروف صوابا في وقته ما لم يخالف وصف القرءان بأنه إنما نزل بلسان عربي مبين. أما ما قيل عن هذه الحروف أنها بلغة غير العربية كالآرامية أو السريانية أو غيرها فهي أقوال باطلة لأنها تخالف نصوصا قطعية في القرءان وأنه عربي اللسان حصرا.
الحروف المقطعة جميعها مسميات لحروف عربية ولا يجوز إخراجها من دائرة اللسان العربي بل والعربي المبين (بلسان عربي مبين) وهي تمثل نصف حروف العربية جمعها أحدهم في عبارة (نص حكيم قاطع له سر) فالنون حرف عربي والصاد عربي وهكذا جميع هذه الحروف، ويقال مثل ذلك في بقية الحروف التي لم يستعملها القرءان في فواتح السور كالباء والتاء والثاء. وقد قيل بأن الحرف المفرد ليس له معنى في ذاته وإنما يظهر المعنى عند جمع أكثر من حرف لتشكيل كلمة فيكون للكلمة معنى. وهذا القول فيه نظر وهو كمن يقول أن الحجر بوصفه وحدة بناء الحائط أو البيت لا قيمة له إلا بعد أن يوضع في موقعه في الحائط أو البيت وهذا القول مردود لأن الحجر هو وحدة بناء فقد يكون وحدة بناء لجدار أو وحدة بناء حائط أو سور أو حتى رصيف شارع فمعناه قائم في ذاته لكن وظيفته لا تظهر إلا بعد وضعه في موضعه تماما ، فإن لم يوضع في موضع أو وضع في غير موضعه يبقى معناه قائما في ذاته من غير وظيفة ، وكذلك الحرف له معنى قائم في ذاته ولا تظهر وظيفته إلا إذا وضع في موضعه في كلمة، فمثلا الحاء حرف والميم حرف الدال حرف ولكل حرف منها معنى قائم في ذاته لكن وظيفته لا تظهر إلا إذا وضع في موضعه من الكلمة ، فعندما نقول: (حمد) قامت وظيفة هذه الحروف في بيان معنى الحمد ، لكن عندما نقدم ونؤخر في هذه الحروف فإنه يظهر معنى مخالف لمعنى الحمد أو لا يظهر معنى أصلا فإذا قلنا (مدح) ظهر بيان معنى المدح وهو غير الحمد قطعا. لكن إذا قلنا مثلا (دمح) لم يظهر بيان أي معنى أو يظهر بيان معنى غير دارج على اللسان ، كمن يضع الحجر في غير موضعه من البنيان تماما. لذلك يمكن القول بأن لكل حرف من الحروف معنى ووظيفة فالمعنى قائم في ذات الحرف ووظيفته تظهر البيان عند جمعه مع حروف أخرى لتشكيل كلمة ذات معنى .
معنى الحرف القائم في ذاته يظهر بشكل واضح في الحروف التي لا تشكل جذر الكلمة وذلك مبسوط في علم الصرف وفي الميزان الصرفي فعندما نقول مثلا (حمد) فإنها تدل على فعل الحمد أو مصدره بحسب تشكيل الحروف ، لكن عندما نقول (حامد) فإن المعنى وإن كان يشترك مع الجذر في قصد الحمد إلا أن فيه معنى زائدا عن (حمد) وهذا المعنى دل عليه حرف الألف ، وإن قلنا (حميد) فإن المعنى يختلف عن (حمد وحامد) وهذا المعنى الجديد إنما دل عليه حرف الياء ، وإن قلنا أحمد ومحمود ويحمد وتحمد فإن معان أخرى سوف تظهر، مما يدل على أن الحرف يحمل معنى في ذاته وتظهر وظيفة هذا المعنى بحسب موضعه من الكلمة.
ولذلك فإن كلمة (كتاب) ليست ككلمة كتابي وكتابك وكتابهم وكتابها وكتابهن وكتابهما ، وهذه الكلمات وإن اتحدت في القصد في معنى الكتاب إلا أنها تضمنت معنى آخر وهو نسبة هذا الكتاب أو ملكيته أو تبعيته .
إذا ثبتت هذه المقدمة فإننا نستطيع أن ننطلق بحذر شديد لفهم فواتح سور القرءان الكريم من خلال تحديد معنى كل حرف من هذه الحروف بحسب موضعه في كلمات القرءان حصرا وذلك لأن كلمات القرءان ثابتة وتوقيفية ومحفوظة بحفظ الله سبحانه ، وسوف نحاول أولا فهم معاني حروف فاتحة سورة البقرة (الم) باستحضار مواضعها في كلمات القرءان الكريم ، وهذه المعاني التي سوف نصل إليها بإذن الله تعالى لا ندعي بأنها معان قطعية بل قابلة للنقاش والتعديل بل والتغيير بحسب طريقة الاستدلال وأسلوب العرض ، مع تقرير حقيقة لا يمكن الرجوع عنها وهي أن لكل حرف معنى قائما في ذاته نحاول أن نصل إليه .
حرف الألف
المقصود بحرف الألف هنا هو الحرف المدي الخارج من الجوف والذي وصفه الإمام الشاطبي بـ (الهاوي) وهو غير الهمزة إذ الهمزة في القرءان ليس لها رسم خاص وإنما تكون برسم الألف كما في (سأل) أو برسم الواو كما في (يؤمنون) أو برسم الياء كما في (بئس) أو من دون رسم كما في (السماء). ولذلك فإن فاتحة البقرة تبدأ بحرف الألف وليس الهمزة فما معنى حرف الألف في كلمات القرءان:
في علم الصرف جعل العلماء من الفعل الثلاثي المجرد ميزانا صرفيا ثلاثيا ثابتا لا يتغير بالزيادة وإنما تضاف هذه الزيادة على الفعل المجرد كما هي ، فقالوا: فعل فاعل مفعول مفاعيل مفعل مستفعل فعلا فعلوا ، فالحروف الأصلية تبقى ثابتة لأنها الميزان ثم يضاف عليها الزوائد . ومن تتبع زيادة حرف الألف على الجذر (فعل) يتبين أن هذا الحرف يدل على معنى الفاعل أي فاعل الفعل فنقول حمد حامد ، سأل سائل، قام قائم وهكذا، فـ (حامد) هو فاعل الحمد ، و(سائل) هو فاعل السؤال ، و(قائم) هو فاعل القيام . لذلك فإن الألف تؤدي معنى الفاعل أي القائم بالفعل .
حرف اللام
لو استعرضنا بعض كلمات القرءان التي تشتمل على حرف اللام وقارنا بين معانيها سوف يتبين لنا القصد العقلي لحرف اللام :
ورد في القرءان الكريم الكلمات التالية: (عمل ، فعل ، قول ، لعب ، لهو، ليل ، لا ، ليس ، قلب) وغيرها كثير.
(عمل ، فعل) يشتركان في حرف اللام وحرف العين ويختلفان في حرف الميم وحرف الفاء ، وهذا يدل على أنهما يشتركان في قصدين ويختلفان في قصد واحد ، لذلك فإن التفريق بينهما دقيق للغاية ، قال تعالى:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. وقال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا.
العمل والفعل كلاهما حراك مقصود لأن الله سبحانه قد رتب عليهما الثواب والعقاب ، وكل حراك غير مقصود فلا ثواب عليه ولا عقاب ، لذلك فإن كل حراك خلقي لا يدخل في دائرة الفعل والعمل ، والحراك المقصود في الإنسان نوعان:
الأول : حراك ناتج عن مشغل أي أن له دافعا أو محركا أو مسيرا له ، وهذا المسير هو وجهة نظر الإنسان في الحياة ، فالمسلم يكون مشغل حراكه هو الحكم الشرعي بينما غير المسلم يتحرك في الحياة بناء على وجهة نظره.
الثاني: حراك يستبدل هذا الحراك بحراك آخر ، فمثلا الأصل في الموالاة أن تكون لله ورسوله وللمؤمنين وهو حراك ناتج عن حكم شرعي هو المشغل له ، فإذا والى المسلم غير الله ورسوله والمؤمنين يكون قد استبدل الحراك الناتج عن مشغل الموالاة بحراك آخر وهو موالاة الكافرين . ومثلا النجوى من الشيطان ومشغل تلك النجوى هو الحكم الشرعي ، أي هي حراك ناتج عن الحكم الشرعي ، فإن استبدل الانسان حراك النجوى بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون قد استبدل الحراك الناتج عن المشغل بحراك آخر.
والمدقق في آيات القرءان التي ذكرت العمل والفعل بأي صيغة كانت يجد بسهولة أن العمل هو كل حركة ناتجة عن مشغل ، ويرى أن الفعل هو حراك يستبدل ذلك الحراك. وبهذا نستطيع التفريق بين العمل والفعل فالعمل هو حراك ناتج عن مشغل بينما الفعل هو حراك يستبدل ناتج .أي أن:
حرف اللام في القصد العقلي يعني الحركة أو الحراك أو النشاط
حرف العين يعني في القصد العقلي الناتج أو النتاج أو النتيجة
حرف الميم يعني في القصد العقلي المشغل أو التشغيل أو المحرك أو المسير
ولتركيز معنى حرف اللام في القصد العقلي نستعرض بقية الأمثلة:
الـ (قول): هو عبارة عن الحروف والألفاظ والجمل التي يضغطها المتكلم في جهازه الصوتي وينقلها إلى خارج فمه ليسمعها الآخرون ، فهو عبارة عن حراك منقول من المتكلم إلى السامع . أي أن حرف اللام دل على الحركة والنقل.
الـ (لعب) واضح أنه حراك من نوع معين أو هو حراك غير منتج فيكون معنى اللام هو نفي النتاج.
الـ (لهو) هو حراك أيضا لكنه حراك فيه ثبات لارتباط الانسان به.
الـ (ليل) فيه حراكان لوجود اللامين في اللفظ وهذان الحراكان هما انتقال الشمس من الشروق إلى الغروب ، وانتقالها من الغروب إلى الشروق فيكون الليل هو المسافة الزمنية بينهما ، فيكون معنى اللام هو حركة نقل.
لا: تستعمل للنفي والنهي والنهي في حقيقته طلب نفي ، فيكون معنى اللام حراك نفي.
ليس: أيضا فيها معنى النفي
القلب: يقوم بالانقباض لنقل الدم إلى الجسم، فيكون معنى اللام حراك نقل.
وهكذا لو تتبعنا جميع كلمات القرءان التي تشتمل على حرف اللام نجد فيها المعاني التالية: الحركة أو الحراك والنشاط والنقل والنفي.
حرف الميم:
من خلال الحديث عن لفظة (عمل) تبين أن معنى الميم في القصد العقلي هو: المشغل أو المحرك والمسير، ولتركيز هذا الفهم نعرض بعض الأمثلة:
مر على قرية:
مر: أي قام بتشغيل فعل المرور، وعند ضم الميم يكون للفظ معنيان الأول هو الطعم المر والثاني صيغة الأمر للمرور، ففي الأول يظهر معنى تشغيل الطعم وفي الثاني يظهر معنى طلب تشغيل فعل المرور.
مقام: فيها معنى تشغيل فعل القيام
مكرم: فيها معنى تشغيل الكرم
أمر: فيها معنى تشغيل الأمر
حمد فيها معنى تشغيل الحمد
وقد يظهر المعنى التشغيلي لحرف الميم بشكل أوضح عندما تكون اللفظة اسم فاعل للفعل المزيد وذلك مثل موظف مغرم مبلس مسيطر، فالموظف هو مشغل الوظيفة والمغرم مشغل الغرم والمبلس مشغل البلس والمسيطر مشغل السيطرة وهكذا ، فيكون معنى الميم في القصد العقلي هو التشغيل والتحريك والتسيير للفعل أو الصفة.
معنى الم
بعد أن اتضح معنى هذه الحروف في القصد العقلي نستطيع القول بأن معنى هذه الفاتحة هو (فاعلية حراك تشغيلي) وهذه الفاعلية للحراك التشغيلي التي افتتحت فيها هذه السورة يجب أن تظهر في جميع مفاصل السورة وليس في الآية الأولى فقط ، وهي مرتبطة ارتباطا عضويا في جميع آيات السورة بما فيها قصة البقرة الصفراء.
قال تعالى: ذلك الكتاب لا ريب فيه. ولم يقل هذا الكتاب مع أن الإشارة تقضي بأن يكون (هذا الكتاب) خاصة أثناء نزوله ، وفرق كبير بين هذا وذلك ، مما يعني أن فاعلية الحراك التشغيلي تظهر في ذلك الكتاب وليس في هذا الكتاب ، وهي فاعلية تأتي في الزمن القادم وليس في زمن نزول القرءان ، وهذا يعني أن فاعلية الكتاب التشغيلية سوف تبقي قائمة إلى يوم القيامة بحيث يظهر من هذه الفاعلية بقدر الحاجة ، فكلما تجددت الحاجة ظهرت فاعلية الكتاب بقدر هذه الحاجة ، ويبقى الكتاب مشارا إليه بـ (ذلك الكتاب) إلى يوم القيامة أي إلى أن تنقضي جميع الحاجات. فما هو ذلك الكتاب؟
إن لفظ الـ (كتاب) لم يرد على رسم واحد في القرءان مما يجعل حتما له بيانا مختلفا.
الرسم الغالب لـ (كتاب) من غير ألف بعد التاء(كتب) مع ألف صغيرة خنجرية فوق التاء(زيادة وليست من الرسم).
لكن وردت الألف بعد التاء (رسما) في أربعة مواضع هي:
لكل أجل كتاب (الرعد38)
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم. (الحجر4)
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك. (الكهف27)
طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين. (النمل 1)
فما هي الراشدة التي يمكن أن نمسك بها من خلال هذا الرسم؟
كتاب ... في علم الحرف يعني (قبض ماسكة) لـ (فاعلية محتوى)
كتب .. في علم الحرف يعني (قبض ماسكة) لـ (محتوى)
الفرق بين اللفظين أن لفظ (كتب) من غير ألف لا يحمل فاعلية لغرض البحث عنها بل القانون الإلهي المسطور في ملكوت السماوات والأرض يكفي لقراءة ما كتبه الله في الخلق ، حتى في (نظم الخلق) التي ليس لها (فاعلية) مثل (الموت) فـ عند الموت تتوقف فاعلية الجسد البشري وتختفي عقلانيته ولا توجد فاعلية مرئية عند الميت !! ومثلها كثير من النظم ليست ذات فاعلية آنية مرئية مثل عاقبة المجرمين والمكذبين والكافرين والظالمين فهي نظام الهي يتفعل بعد حين إلا أن النظام الإلهي يتم رصده حتى وان كان بلا حراك أو فاعلية (كتب الله في الخلق) وهو (صر’ط الله المستقيم) وهو لم يتحول بعد إلى (كتاب) مثل المرض فـ المرض له أوليات لا تزال غير فعالة لأنه لا يزال قانونا غير فعال إضافة إلى أن الجسد يتحمل مساوئ الغذاء أو المواد الضارة إلى حين وصول السوء إلى مرحلة لا يستطيع الجسد مقاومتها فالسوء حين يعبر سقف قدرات الكبد والكلى وغيرها من الأعضاء التي تحمي الجسد من السوء تبدأ فاعلية المرض فيكون (كتاب المرض) وقبله كان (كتب المرض) الذي كتبه الله سبحانه كقانون إلهي في ملكوت السماوات والأرض
أما كتاب بالألف فهو يعني الإمساك بقانون وهو ما يقع بين يدي القادرين على قرائة الكتاب (أهل الكتاب) فحين اكتشف (نيوتن) الجاذبية إنما اكتشف سقوط الأشياء وليس طيرانها وفعل محتوى هذا السقوط بما يسمى (قوانين الجاذبية) والتي قال فيها إن (كل جسمين في الكون يتجاذبان بينهما طرديا مع كتلتيهما عكسيا مع مربع المسافة بينهما) فهي (فاعلية جذب) لذلك فإن كتاب الجاذبية هو المحتوى الفاعل الذي أمسك به نيوتن بمعنى أن هذا القانون كان قبل ذلك (كتب الجاذبية) وبعد اكتشافه تفعل وصيغت له القوانين فأصبح (كتاب الجاذبية)
عند تطبيق هذا الفهم على المواضع الأربعة التي رسمت فيها الألف في لفظ (كتاب) نجد ما يلي:
1 ـ لكل اجل كتاب: الأجل هو ميقات معلوم لم يأت بعد أي أنه مؤجل إلى ميقات معلوم فهو غير مفعل ما دام آجلا، أما إذا جاء الميقات المعلوم فإن فاعلية الأجل تقوم عند مجيئه فمثلا الموت فإن الرجل يموت بفاعلية الموت عند استحقاقه لان اجله تحقق.
ومثله اجل الدين فحين يأتي الأجل تقوم فاعلية قبض قيمة الدين من المدين للدائن، وهكذا.
2 ـ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم: فان الهلاك هو فاعلية تقوم عند الوقت المعلوم، بعد أن كانت غير قائمة.
3 ـ طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين: القرءان هو دستور الخلق والكتاب هو الوعاء التنفيذي لهذا الدستور وهذه النفاذية لها فاعلية نافذة في الخلق، فالشيء النافذ في الخلق يحمل فاعلية لأنه نافذ مثل قانون الجاذبية النافذ، وقوانين الحركة النافذة وقوانين الحياة في الخلية الحيوانية والنباتية النافذة ومثل قوانين المجتمع كقانون العقوبات والأحوال الشخصية وغيرها، فهي قوانين تتفعل عند تحقق الحالة التي تنطبق عليها أي أن فاعليتها تظهر عند التطبيق، فقبل ظهور فاعليتها تكون (كتب) وحين تتفعل تكون (كتاب)
4 ـ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك: عملية التلاوة هي بحد ذاتها (فاعلية) توجب أن يكون اللفظ (كتاب) بألف ظاهرة لان التفعيل في تلاوة الآيات يوجب ظهور الألف في اللفظ وهي (فعل تلاوة كتاب ربك).
إذن المقصود بـ (الم ذلك الكتاب) فاعلية الحراك التشغيلي لقوانين الخلق التي سطرها الله تعالى والتي يمسك بها الإنسان تباعا حسب الحاجات المتجددة إلى يوم القيامة ، فهي تبقى (كتب) من غير ألف فإذا ظهرت فاعليتها أصبحت (كتاب) بالألف.
لا ريب فيه
وردت اشتقاقات كلمة ريب في القرءان الكريم ستا وثلاثين مرة (ريب ، ارتابوا ريبهم ، يرتابوا ، مريب: ريبة مرتاب ،...) ولم يخرج معنى هذه الكلمة في كتب التفسير ومعاجم اللغة عن معنى الشك والظن والتهمة وبعض المعاني الأخرى التي تدور حول هذه المعاني .
إذا عرفنا أن معنى الكتاب هو جميع القوانين التي سطرها الله تعالى في خلقه والتي يمسك بها الانسان تباعا حسب حاجاته فإن ظهور هذه القوانين أو الامساك بفاعليتها لن يتوقف إلى يوم القيامة بل في كل لحظة سوف تظهر فاعلية قانون أو أكثر من قوانين الخلق ، فيكون معنى لا ريب فيه أي لا توقف في حيازة قوانين الخلق إلى يوم القيامة .
هدى للمتقين
هذه قضية عقلية ضخمة جدا ومتشعبة إلى ثلاث شعب:
الشعبة الاولى: (الم) أي فاعلية الحراك التشغيلي تجعل الإنسان دائم النشاط العقلي وإثارة القضايا وتقليب الأمور لحل ألغاز الكون ومعرفة دقائق الخلق.
الشعبة الثانية: (ذلك الكتاب) أي القوانين المسطورة في الخلق تمثل قضية عقلية كبرى عند المتقين حتى لو لم تظهر لهم فاعليتها ولم يفهموا سرها ، لكنهم يسعون للفهم دائما لإظهار فاعلية تلك القوانين.
الشعبة الثالثة: اللاريب في الكتاب فيها الأمل عند المتقين أن تلك القوانين سوف تظهر فاعليتها في يوم من الأيام سواء في جيلهم أو في الأجيال القادمة فيظلون دائما في حالة من تقليب الأفكار من أجل الوصول إلى حل ألغاز الكون أو على الأقل يرسمون الطريق لمن خلفهم ليسهلوا عليهم طرق حل هذه الألغاز .
لذلك فإن (هدى للمتقين) هي فاعلية عقلية دائمة التقليب لقراءة ذلك الكتاب الذي لا تتوقف وسائل فهمه إلى يوم القيامة ، وهذا الهدى لا يكون إلا للمتقين . فمن هم المتقون؟
لا يخفى على جميع الناس ان دنيانا المعاصرة اختلفت جوهريا وجذريا عن حياة اباءنا واجدادنا بشكل شامل ولم يبق من دنيا السابقين فينا سوى المتاحف والاثار وبعض فتات من ازياء بعض الامم وبقايا من ممارسات دينيه وبقايا من مظاهر قروية او بدوية الا ان الباقين على شيء من ممارسات الماضي يحيون اليوم حياتهم معاصرة بما افاض العلم من تطبيقات في الاتصالات والزرع والصنع والملبس والمشرب ووسائل النقل ووسائل التعليم وطرق التفكير وهندسة المدن والطرقات والازياء والأكلات وغيرها
وسط زحمة حضارية متلاطمه مليئه بما هو مزخرف براق وما هو فاسد مقيت كالامراض العصرية وتدهور الاجواء نرى ان الله يطالبنا بالتقوى ويفرز المتقين عن غيرهم في منهج ما كتبه الله في نظمه وقوانيه النافذة
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } (سورة النحل 30)
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } (سورة مريم 97)
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (سورة ص 28)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } (سورة الدخان 51)
{ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (سورة الجاثية 19)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } (سورة الطور 17)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ } (سورة المرسلات 41)
قيل في لفظ المتقين على انها صفة المتمسكين بالممارسات الدينيه والصادقين القول والذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر و .. و .. و ... فصفاتهم الدينيه كثيره وهو (حق وصدق) الا ان يومنا المعاصر المليء بالمخالفات يجعل من تلك الممارسات شريكة مع حق ممارسات المتقين فتراهم صرعى بـ امراض العصر او صرعى لـ فكر المعاصرين ولن تجد الوعود الشريفه التي وعدها الله لـ المتقين فيهم ..!! فكم من رجل صالح تلقفه الموت بالسرطان او ضغط الدم او السكري وكم من رجل متقي حلت به او بكيانه كارثة ولم نجد ان الله قد دافع عنه والله يدافع عن الذين أمنوا ..!! فهل التقوى لا تزال (حالة هلامية) لا يمكن الامساك بها ام ان نظم التقوى في الزمن المعاصر غير متوفره لاننا نرصد النتيجة من الوعد الالهي في كثير من المتقين الذين انهارت كياناتهم وتعرضوا الى مصاعب كبيرة تتصف بالسوء والفساد في اجسادهم او ابنائهم او يكاناتهم فيصيبهم ما يصيب الكافرين والمجرمين سوء وفساد ظاهر !! فاين وعد الله فيهم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) !!
سوف لن نبذل جهدا فكريا حين نرى ضياع المتقين وسط الكافرين من حيث الولاية وما ينتج من تلك الولاية من صفات حميده وهي مفقوده او شبه مفقوده يقينا في زمننا ولا بد من وجود خلل ادى الى ضياع معايير التقوى رغم ان فاعليها يسعون لـ التقوى ولعل الحديث النبوي الشريف والمشهور جدا والذي جاء فيه (يأتي زمان على امتي القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة من نار) ولعلنا ندرك مصداقية الرسول عليه افضل الصلاة والسلام حين ندرك ذلك الوصف الدقيق لحال يومنا المعاصر فالحديث الشريف ان كان لا يدركه السابقون في واقع حالهم الا اننا ندرك حقيقة ذلك الوصف الشريف في يومنا الصعب والقاسي على المتدين ليس من خلال الحكام ومضايقة المتدينين فمن لا يقترب من الحكام يأمن شرهم الا ان الممارسات الحضارية التي غرقنا فيها هي التي جعلت القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار ! ذلك لاننا فقدنا السيطرة على انسياب النظم الحضارية فينا فالقبول بكل شيء حضاري سرى في ابائنا من زمن جيل الحضارة الاول لغاية اليوم عبر ثلاث او اربع اجيال مضت
استلمنا الحضارة وما انتجت من حديث مستحدث سواء كان على شكل ممارسات كـ النقل الالي في السفر او الادوية او مكونات الملبس والمشرب او غيرها من الممارسات في البناء والتعلم او اي مستحدث مصنوع او اي مستحدث فكري ومنهجي حتى اصبحنا (مستهلكين) بامتياز فائق دون تعيير او وزن ما هو مستحدث بموجب نظم الدين التي رسخت في القرءان (الثابت) عبر الاجيال لغاية ءاخر يوم فيه انسان على هذه الارض صفته (لينذر من كان حيا) وصفته ايضا (لتنذر به قوما ما انذر اباؤهم فهم غافلون)
معيار الفرز بين الحسنات والسيئات الحضارية مفقود بالكامل على ناصية فتوى شرعية قديمة تتجدد كل يوم يحتظنها فقهاء كل مذاهب المسلمين ويروجون لها الا وهي أن (اصل الاشياء الاباحه الا ما حرم بنص) وهذه الراسخة الدينيه الساريه بين المسلمين جعلت من اي محاولة لـ تعيير الممارسات الحضارية تحمل صفة (الرجعية) اي ان الرجعيين انما يطالبون بالعوده الى زمن مضى باهله ونسوا القرءان وما فيه من (علم) لان اكثر فقهاء الدين يرفضون ان يكون القرءان لـ (العلم) بل هو قرءان ينظم حياة المسلمين في ارث او صلاة او زكاة او علائق اما العلم فهو منفي تماما في ثقافة الفقه الديني عدا بعض المحاولات الحديثة التي ترفع شعار (الاعجاز العلمي في القرءان) وهي مدرسة حديثة لم تتقدم بشيء يحمل معايير فرز ما يستوجب فرزه من سوء حضاري ولم تسهم في (أسلمة الحضارة) بل تسعى لما يحمله القرءان من اعجاز سبق المتحضرين بـ 14 قرن من الزمن !! ... هنا كان ويكون مكمن الخطر الذي داهم المسلمين عبر بضعة اجيال من الحضارة .. وحين نبحث عن المعايير سنجدها في (المتقون) الذين يبحثون عن نظم التقوى بالله وفي الله من خلال نظمه الامينه
{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } (سورة الزمر 33 - 35)
ومن ذا الذي جاء بالصدق وهل الصدق له مكمن يؤتى منه (التصديق به) ..؟ وكيف لنا ان نبحث عن ذلك المكمن الذي يحمل وعاء الصدق ؟
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (سورة الأَنعام 92)
وهذا كتاب وهو (قرءان في التطبيق) فتطبيق القرءان (كتاب) وفيه مشغل (صدق) الذي بين يديه من ما كتبه الله في الخلق والخليقة لان الله صرف في القرءان من كل مثل ولم يستثن شيئا
الذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به !!! انه المعيار الذي لا يعلوه معيار وبه يقوم مشغل الصدق ومن أمن في يومه وأمن في غده انما فاز بمفازة المتقين الذين يتقوون بنظم الله وان أغرقوا في نظم الحضارة انما يمتلكون رابطأ يأتي بالصدق من عند الله في قرءانه ليكون في التطبيق (هذا كتاب مصدق لما بين يديه)
فمن يحمل القرءان لغرض التطبيق انما يرى ما بين يديه من نظم حضارية لها ذكرى في القرءان ويرى ما في القرءان الذي يقرأه مصدقا لما بين يديه من نظم أمينة صادقه وهو ما ذكرنا به النص الشريف وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا } (سورة النساء 122)
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } (سورة النساء 87)
ما كانت تلك السطور تفسيريه بل دعوة لتطبيق القرءان في زمن الحاجة الى معيار (أمين) يتم فيه تعيير النظم الحضارية لـ الامتناع عن سيئها والتمسك باحسنها وتعديل ما يمكن تعديله من ممارسة حضارية تحمل الحسن والسيء وعندها يكون لـ (المتقين) وجود اسلامي مختلف عن زمن مضى لم يكن لـ ممارسات مستحدثه جيء بها من دون الله كما هو يومنا المعاصر
لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
السلام عليكم
تعليق