القراءة المفتوحة للنص الشرعي
والسمة المشتركة للمصطلحين هي القراءة المفتوحة للنص الشرعي بغير ضوابط وقواعد منهجية للفهم، وهي تستخدم اليوم كشبهة تُهدَر من خلالها النصوص الشرعية. فشبهة القراءة المفتوحة للنص الشرعي تعد من أكثر الشبهات حضوراً في الخطاب العلماني العربي على وجه الخصوص، بل يمكن عدها الشبهة المركزية التي يدور عليها هذا الخطاب، وهي تتخذ أشكالاً من التعبير متعددة لكنها تتحد في المضمون، كقولهم مثلاً: (النص مقدس، ولكن فهمه غير مقدس)، أو (عندنا إسلامات متعددة فأيها نطبق!؟)، أو (يجب المحافظة على مسافة بين النص وبين قارئ النص)، أو غير ذلك من التعبيرات.
ولا تخلو هذه الإطلاقات من قدر من الإجمال أوجد ثغرة يتم من خلالها تسريب المضامين العلمانية. ومحصلة الشبهة النهائية أن الشريعة تكتسب قدسيةً زائفةً نتيجة عدم الإقرار بطبيعتها الحقيقية، إذ هي لا تعدو أن تكون غير قراءة بشرية للوحي، وفعلاً إنسانياً ينتابها ما ينتاب الفعل البشري من الخطأ والصواب، فالشريعة لا تُفَسِّر نفسها بنفسها وانما يفسرها الإنسان، وبمجرد نزول الوحي إلى الناس ومع لحظة قراءتهم له "يتأنسن" (أصبح بشرياً)، وينتقل بفعل التفاعل الإنساني معه من كونه منطوقاً إلهياً إلى كونه مفهوماً بشرياً، ويتحول من طبيعته التنزيلية إلى طبيعة تأويلية، ومن كونه حُكماً لله إلى مجرد حكم لللإنسان.
يقول فؤاد زكريا (من العلمانيين المصريين، توفي سنة 2010): «لا توجد في عالم البشر مفاضلة بين حكم إلهي وحكم بشري؛ لأن كل حكم يتولاه الإنسان، حتى لو كان يرتكز على شريعة إلهية، سيصبح بالضرورة بشرياً، تنعكس عليه أهواء البشر وتحيزاتهم وأطماعهم وكل جوانب ضعفهم. وهذا معناه أن الاختيار الحقيقي ليس بين حكم الله وحكم الإنسان، وانما بين حكمٍ بشري يزعم أنه ناطق بلسان الوحي الإلهي، وحكمٍ بشري يعترف بأصله الإنساني» الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة149.ويقول نصر حامد أبو زيد (من العلمانيين المصريين، توفي سنة 2010): «الجميع يتحدثون عن "الإسلام"-بألف ولام العهد- دون أن يخامر أحدهم أدنى تردد ويدرك أنه يطرح في الحقيقة فهمه هو للإسلام أو لنصوصه» نقد الخطاب الديني79.ويبيِن أن لحظة تأنسن النص بدأت بلحظة تلقي النبي له، فيقول: «النص منذ لحظة نزوله الأولى- أي مع قرائة النبي له لحظة الوحي- تحول من كونه (نصاً إلهياً) وصار فهماً (نصاً إنسانياً)؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل، إن فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري، ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية. إن مثل هذا الزعم يؤدي إلى نوع من الشرك من حيث يطابق بين المطلق والنسبي، وبين الثابت والمتغير، حيث يطابق بين القصد الإلهي والفهم الإنساني لهذا القصد ولو كان فهم الرسول. انه زعمٌ يؤدي إلى تأليه النبي، أو إلى تقديسه بإخفاء حقيقة كونه بشراً، والتركيز على حقيقة كونه نبياً» نقد الخطاب الديني126.
وبعيداً عن تفاصيل المشهد المرسوم هنا والتغافل عن حال النبي المعصوم، والذي كان يأتيه الوحي في صورتيه (قرآناً وسنةً) بما يشكِل ضمانةً في مسألة تلقي الوحي وفهمه وتبليغه وإفهامه؛ فإن مكمن الإشكال الرئيس هنا هو في تصوير نصوص الشريعة كأنها مزيج هلامي متشابه لا يتمايز منه شيء عن شيء من جهة البيان والوضوح والقطعية، بل الكل قابل لقراءات متعددة متكاثرة، ومع انفتاح مناهج القراءة الأجنبية وتعددها واستعمالها في فهم النصوص ازدادت هذه القراءات والتفسيرات كماً وتباعدت كيفاً.
والحق الذي لا محيد عنه أن الوحي فيه المحكم الواضح البين بنفسه الذي هو في غنى عن التأويل والاجتهاد البشري، وفيه ما هو دون ذلك، وقد أوضح الوحي ذاته هذه الطبيعة فيه، فقال تعإلى: ï´؟هُوَ الذِي أنزَلَ عَليْكَ الكِتابَ مِنْهُ آيَاتٌ محكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتشَابِهاتٌ ï´¾[آل عمران:7]، فالنص القرآني مشتمل على ثنائية المحكم والمتشابه ،و«المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحدٍ؛ والمتشابه منه: ما احتمل من التأويل أوجه اً» تفسير الطبري5/197. وقد قال الطبري كاشفاً عن استغناء بعض المحكم عن جهد التبيين: «وقد استغنى بسماعه عن بياٍن يُبَينه» تفسير الطبري5/201.
ثم بيَّن أن بعض المحكم تحصَّل على وصف الإحكام لبيان الله تعإلى أو رسوله rعن معناه، فقال: «أو يكون محكماً، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، بالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعإلى ذكَره عنه، أو بيان رسوله rلأمته، ولن يذهب علمُ ذلك عن علماء الأمة» تفسير الطبري5/201.
والمقصود التأكيد على بطلان ذاك التصور الذي يحيل النص القرآني كله إلى طبيعة سيالة لا يمكن استثبات معانيه أبداً. فلا يصح أن يصور الوحي بأنه قطعة نصيةٌ من المتشابهات لا يقبل الانضباط التفسيري، بل لابد من فرز أحوال الوحي بالتأكيد على أنَّ منه ما هو بيِن بذاته، ومنه ما يحتاج إلى اجتهاد وتأمل، وعليه فلا يجوز الاعتراض على مبدأ التسليم للنص –تصديقاً أو انقياداً وعملاً -وهدره بدعوى تعدد القرائة بإطلاق، بل ينبغي مراعاة طبيعة المسألة والنص التي وقعت مطالبة التسليم حياله، وتحديد موقع النص من خريطة المحكم والمتشابه.
والحيد عن هذه الحقيقة الشرعية يجعل من الوحي مجرد قالب لفظي لا قيمة له ولا يوصل إلى معنى محدد، بل يمكن أن يوصل للنتيجة وضدها، ويفسَّر بالشيء ونقيضه، وهي دعوى تخالف المحسوس من شأن هذا الوحي وبيانه ووضوحه، وفيه مكابرة عجيبة، وهو مناقض أيضاً لتمدح القرآن بأنه مبين وبيان وتبيان ونور وهدى وفرقان وكتاب أحكمت آياته، ويلزم منها جعل الكلام القرآني المتكرر عن حاكمية الشريعة وهيمنتها، والرد إلى نصوصها في حال الاختلاف، وبيان الفرق بينها وبين حكم الجاهلية عبثاً لا فائدة منه، وإحالةً إلى معدوم، وأمراً بما لا يطاق، بل يلزم هدر الأدلة الشرعية جميعاً، وعدم التعويل عليها إطلاقاً.
يقول الإمام الشاطبي منبهاً إلى خطورة إشكالية الاعتراض على دلالات النصوص بمطلق الاحتمالات: «لو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليلٌ يعتمَد، لورود الاحتمالات وإن ضَعُفَت» الموافقات5/401، ويقول أيضاً: «لو اعتبِرِ مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب ولا لإرسال النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فائدة؛ اذ يلزم أن لا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات؛ اذ ليست في الأكثر نصوصاً لا تحتمل غير ما قُصِدَ بهِا، لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول، فما يلزم عنه كذلك» الموافقات5/401، ويقول أيضاً: «وأما من تعسف واتبع المحتملات، ورام الغلبة بالمشكلات، وأعرض عن الواضحات، فانه يُخاف عليه التشبه بمن ذم الله في كتابه حيث قال عز وجل: ï´؟فأمَّا الذِينَ في قُلُوِبِهمْ زيغٌ فَيَتبعونَ مَا تشَابهَ مِنْهُ ابتغاءَ الفِتْنَةِ وَابتغاءَ تَأْويلهï´¾ الآية. جعلنا الله ممن رأى الحق حقاً فاتبعه والباطل باطلاً فاجتنبه» المعيار المعرب11/144.
ومن العجيب حقاً إصرار بعض الناس على جعل الوحي مجرد جسد هلامي لا يمكن إدراك شيءٍ من معانيه على جهة القطع، وجعل كلام الله الذي هو أعظم كلام، وأجلِ كلام، وأبين كلام، وأوضح كلام، الموضوع للهداية، أكثره غموضاً وتضليلاً، ولو تعاملنا مع كلام البشر كهذا التعامل بعزل الفهم المطلق وادعاء أنَّ كل جملة تحتمل معاني متعددةً فكيف ستكون أحوالنا!؟ وأي بابٍ من السفسطة سينفتح علينا!؟ وليت شعري كيف يزعم زاعم أنَّ نصوص الفلاسفة كفولتير وكانت وروسو وهيوم وسارتر، والدساتير والأنظمة الأرضية، وكلام البشر عموما؛ كلها بينة واضحة توصل إلى معانٍ محددة ولا يكون كلام الله ورسوله كذلك!؟
والخطاب العلماني لم ينتبه إلى مآل القول بنسبية الحق في فهم النص وانعدام القراءة المعيارية الثابتة للوحي، وأنه بذلك أوقع نفسه في إشكالية معرفية عميقة؛ وهي أنه لا يستطيع الإنكار على المخالف مهما كان غالياً أو جافياً، فأتباع داعش مثلاً لهم قراءتُهم للنص الديني، وليس لأحدٍ أن يبادر إلى تخطئتهم ولا الإنكار عليهم! فهل يرضى العلماني صاحب القراءة المفتوحة بذلك؟ فمَن يريد أن يبيح لنفسه حق تفسير القرآن بغير أدواته فإنه ودون أن ينتبه سيعطي هذا الحق أيضاً لمن يقف في الضفة المقابلة له تماماً.
ومن الملاحظات التي يمكن رصدها على بعض مَن يشوِش على محكم الشريعة بالمتشابه منها، ويشغب على الإسلام باختلاف مذاهبه وتجارب تطبيقه أنه لا يلتزم المنطق ذاته عند محاكمة الفكرة التي ينطلق منها، فالاختلاف في المذاهب الوضعية أعمق وأوسع وأكثر من الاختلاف الحاصل في المشهد الإسلامي، فالليبرالية أيضاً ليست شيئاً واحداً، بل ثمة ليبراليات متعددة في الواقع، وكذا الماركسية والاشتراكية والرأسمالية والشيوعية والديمقراطية .. الخ، كلها ليست في الواقع شيئاً واحداً، وإنما ثمة تطبيقات وتنظيرات مختلفة، وليس القصد هنا الإقرار بالهلامية المطلقة للأفكار والتيارات، وإنما تجلية سياسة الكيل بمكيالين عند محاكمة التشريع الإسلامي مقارنةً بغيره، وما ترتب على هذه السياسة الجائرة من ممانعة لتحكيم الشريعة تحت ذريعة: (أي إسلام نطبق؟) وكأن بقية الأفكار خلوا من تعدد التطبيقات وتباين النظريات، فلماذا لم يكن التعدد هنا مانعاً من المطالبة بالليبرالية أو الديمقراطية أو الاشتراكية .. الخ، وصار مانعاً من المطالبة بتطبيق الشريعة!؟
ومقتضى الحق والعدل والعقل يقتضي منا أن نقول: ان التباينات الفكرية الواقعة في مذهب فكري محدد لا يلغي القواسم المشتركة الواقعة أيضاً في المذهب ذاته، فكل مذهب له أفكاره المحورية المركزية التي تمثل مُحكَمات المذهب وثوابته، والتي يُعَدُ المنقَلب عليها خارجاً ضرورة عن حد المذهب، فمَن ينادي بإلغاء الحريات مثلاً لا يمكن أن يكون ليبرالياً، ومَن يدعو لإلغاء مرجعية الشعب في الحكم لا يمكن أن يصير ديمقراطياً، وهكذا يقال في الإسلام، فيه منظومة تشريعية تفصيلية مُحكَمة لا يصح الخروج عنها، وتشكِل هذه المنظومة قاسماً شرعياً مُشتركَاً يجب أن يقع التوافق عليها، وتصور هذه المسألة يلغي فكرة الهلامية المطلقة عن التشريع الموهمة عدم إمكانية تفعيل هذه الشريعة على أرض الواقع، بل ثمة قدر منها يتسم بالإحكام والثبات والوضوح، وثمة قدر فيه مجال للنظر والتأمل والاجتهاد ضمن أطر وضوابط شرعية/منهجية.
ومما ينبغي ملاحظته هنا أنَّ قراءة الوحي ليست عملية عبثية اعتباطية، بل لها ملامح وخصائص ومحددات دقيقة، وتعريض الوحي لمناهج قراءة محدثة على خلاف طريقة أهل العلم خطأ بلا شك، ثم جعل هذه القراءة المحدثة مما يصح التسليم له والإذعان خطأ مضاعف، واذا تأمَّلت في طريقة الكافة من علماء الإسلام وما بذلوه من جهود في تقعيد مسالك فهم النصوص وجدتَ جهوداً عظيمةً في تحرير ضوابط وقواعد فهم الكتاب والسنة، وهي تعد بحق مفخرةً للأمة الإسلامية، وما من شك في أن الحديث عن تفاصيل منهج الاستدلال والفهم الصحيح مما لا تحتمله هذه الورقة، ولكن أعرض لبعض الملامح المهمة لهذه القضية على نحو مختصرٍ جداً:
أولاً: مما ينبغي مراعاته في قضية فهم الوحي أنَّ أدوات الفهم مبثوثة في الوحي ذاته، فقاعدة الجمع بين النصوص جميعاً وترك تبعيض الوحي مثلاً موجودة في الوحي، وقاعدة درء التعارض المتوهَّم عن الوحي كذلك موجودة، وقل الأمر نفسه في قاعدة المحكم والمتشابه، وفهم الوحي بمقتضى لغة العرب وفق معهود الأميين في عصر الاحتجاج اللغوي، وطلب مراد المتكلم، وفهم النص في ضوء سياقه، وتقديم تفسير الوحي بالوحي، ومتابعة الصحابة؛ كلها قواعد مبثوثة في القرآن والسنة، وجرى عليها عمل الصحابة ومَن بعدهم.
ثانياً: منهج الفهم الصحيح للنص يتكئ في الجملة على قضيتين رئيسيتين:
الأولى: علم بأصول الخطاب العربي
الأولى: علم بأصول الخطاب العربي
الثانية: معرفة بأقوال السلف الصالح (صحابة وتابعين ومَن تابعهم على نفس منهجهم)
وفي الختام:
فإن القول بالقراءة المفتوحة للنص الشرعي هو قولٌ ساقطٌ شرعاً، فالوحي قد حدد قواعد منهجية للفهم، لا يجوز لمن يشتغل في النص الشرعي الخروج عنها، وإلا كان واقعاً في الشقاق، متبعاً غير سبيل المؤمنين، مستحقاً للعقوبة، قال تعإلى: (وَمَن يشَاققِ الرسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبيَّنَ لهُ الْهدَى وَيَتبعْ غيْرَ سَبيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلهِ مَا تَوَلَّى وَنصْلهِ جَهَنمَ وَسَاءتْ مَصيرا ]النساء:115[.
تعليق