(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
استعرت كثيرا سلطوية رجل الدين على المسلم في كل مكان حيث استطاع المنظر للدولة الحديثة ان يتكيء على رجل الدين في منح العصا الرسمية طولا اكثر وسط قبول رجل الدين نفسه واعتزازه بهذه المهمة متصورا انه في برنامج عقائدي محض ..! فبدأنا نسمع باسم مفتي الديار كذا ومفتي المجلس الاعلى كذا وفقيه ولي وامير مؤمنين وهكذا تهيكل الدين في مسار متناغم مع النظرية الوطنية فمن اجل المواطن صنعت العصا العقائدية ...
حصل قبل فترة وجيزة في احدى الدول الاسلامية صيحات الترويج لقانون الفتيا بحيث يكون المفتي ذو علامة رسمية اكاديمية واصر المروجون لمثل ذلك القانون ان تكون الدولة بمنظومتها السلطوية وسجونها الكبيرة ونظامها القضائي حاملة لواء برمجة الفتيا لتذوب في قانون وضعي يصنعه بشر ..!!
الفكر العقائدي ابتعد عن منبعه كثيرا في حسرة كبيرة لا تريد ان تصف العقيدة وصفا قاسيا او تتهم العقائديون بذلك الانحراف الكبير عن مصدر العقيدة الاول فقد تم عجن العقيدة مع وجهات نظر في زمن قديم واصطبغت وجهات النظر بالصبغة العقائدية واصبحت العجينة المختلطة قدسية الوصف لا مساس لها .
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور:37)
بل من اين حصل المسيطرون على سلطانهم وبين ايدينا قرءان لا يزال يقرأ بين يدي حملته
(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية:22)
وهو رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام وعندما يكون المسلم مستن بسنة رسوله فيكون النص موجها اليه ايضا بنفس التبعية الرسالية في تطبيق السنة وتلك من عقلانية المعالجة بين ما ورد من الله لرسوله فاصبح لزاما علينا استنساخه وتطبيقه فعندما علّم الله رسوله الصلاة التزمنا بذلك وطبقنا ذلك ومثله في المناسك الاخرى وهنا في مفصل التبليغ الرسالي والتوجيه العقائدي تتفعل السنة الشريفة ايضا ويتم تطبيق نفس المنهج فمن يمتلك حق السيطرة على الاخرين ..؟ ومن منح السلطان ..؟ والله لم يمنح سلطان لاحد الا لمن اعتدي عليه فقط ..
دور الافتاء ولجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وولاية الفقيه وسلطنة وعلياء تتوائم وتتناغم مع نظرية الوطن لتمنح سلطنة الدولة مسربا عقائديا في منظومتها تحت شعار كلمة حق عقائدي .. ولكن حقيقة المعتقد خالية من تلك العلياء والهيمنة و(لست عليهم بمصيطر) ما كانت في صحيفة سياسية بل في قرءان ملزم لمن يدعي الالتزام العقائدي .
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما يكون تحت عصا غليظة وسجن ومطاردات فهو قد افرغ من وعاء العقيدة ودخل تحت سلطوية وطنية مغلفة بالعقيدة وعندما يكون لا اكراه في الدين وعندما يتم شطب عنصر السيطرة في مهمة التبليغ الرسالي فان منهجية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب ان ترتبط بالقرءان لانه قول الله اما الاتكاء على (فليغيره بيده) فهو قول يتناقض مع القرءان الا في وضع الحد الشرعي على السارق والزاني وشارب الخمر وهي ثلاث مفاصل شرعية تمتلك مرابط تنظيمية وليس عباديه ايمانية فالسارق عندما تقطع يده ليترك السرقة وليس ليكون من الصالحين كذلك شارب الخمر والزاني ولكن ضرب الناس لغرض الصلاة ما كان ولن يكون في برنامج التبليغ الرسالي وجاء ما يخالف الاجبار على الصلاة في نص قرءاني
(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طـه:132)
واصطبر عليها في الاهل فكيف تكون في غير الاهل ..!
وولاية الفتيا والفقيه لا ترتبط بالقرءان في جملته او في تفاصيله ويوجد في القرءان ما يدحض أي ولاية من أي نوع حتى والولاية المعنوية
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)
وان لم يتم الرجوع اليهم فلا ولاية لهم وتلك تتطابق مع فطرة تبعية الجاهل للعالم حيث يتبع الجاهل العالم تبعية فطرية غير ملزمة كما في شؤون الطب وعندما يحتاج الفرد الدواء فهو جاهل بشؤون الطب فتكون تبعيته للطبيب تبعية فطرية غير الزامية وان ازدادت حاجة المريض للطبيب فان الالزامية تنشأ عند المريض وليس عند الطبيب لتكون له ولاية على المريض بل الزامية المريض تبرز من خلال حاجة المريض وليس هيمنة الطبيب وسلطويته ومثلها عندما يحتاج الفرد الى دولاب او منضدة فهو جاهل في شؤن النجارة فيكون تابعا للنجار فيما يعلم ومثله مع الحداد والخياط .. الفقيه لا يختلف في تلك الفطرة ولن تقوم له ولاية على الناس بسبب فقهه ولا يحق له الزام الناس بما يفتي ولم يمنحه الله ذلك المنصب الا اذا كان يمتلك صفة تفوق صفة محمد عليه افضل الصلاة والسلام .
(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18)
تلك هي منهجية التبليغ الرسالي خاضعة للمسلم ولن تكون في علياء من يتفقه في الدين ليمتلك موقعا رسميا او موقعا عقائديا الا في نظام واحد فقط ولا يوجد غيره وهو حصرا في نظام البيعة وهو نظام عقائدي معطل بصفته العامة ولكنه يمكن ان يتفعل بشكل خاص
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55)
فان اختار المؤمن بيعة لمؤمن اخر فتلك ولاية تعاقدية وليس سلطوية رسمية ولها شروطها وترتبط بولاية حق
(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح:10)
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18)
فاذا كانت البيعة لغير الله فانها قد خرجت من المنظومة العقائدية المرسومة رسما ممنهجا مرتبط بسنن التكوين ولا تخضع للمزاج الشخصي او للتقديرات الفردية بل هي مرابط تكوينية لها فاعلية في حياة المسلم اليومية وعلى مدار الساعة حيث يمتلك المؤمنون جمعية تربطهم في العقل وهم في اعلى درجة من التأمين الالهي
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82)
فالرجل الصالح مقبوض الى ربه والغلامين اليتيمين لم يطلبا من العبد الصالح بناء الجدار ولا يعلمان بالكنز ولم يدفعا له اجرا ولكن منظومة الترابط بين المؤمنين تمتلك فاعلية تأمين الهي فائقة النفاذية (وما فعلته عن امري) ... قد يرى بعض الناس جزءا منها في حياتهم على شكل معجزة ولكنهم لا يعرفون مرابطها التكوينية ولا يعلمون حقيقتها لان مرابط حملة القرءان المباشرة مع العلم القرءاني مقطوعة ولا نعرف كثير من الحقائق التكوينية الخاصة ببناء منظومة الاسلام الجمعية ونعرف من خلالها نظام البيعة ...
الناس يبحثون عن الاسلام في الدولة الجغرافية فهذه الدولة اسلامية وتلك اسلامية ولكن الاسلام ليس في دولة بل في الناس اينما يكون المسلمون فلهم دولة وبموجب نصوص قرءانية وان اجتمع عشر مؤمنين (حاوية تكوينية) قامت دولتهم حتى لو كانوا في وسط كفر شديد .. الاسلام منظومه ولم يكن تحزب فكري او تجمع بشري بل منظومة منصورة فعالة لها نظامها الفائق النفاذية ولو نسترجع في التاريخ المهاجرين الى الحبشة مع جعفر بن ابي طالب فانهم شكلوا دولة في وسط غير مسلم ولكنها دولة بلا سلطان ولكنها اكبر من كل سلطان لان الاسلام منصور بتكوينته
لم يكن هدف هذه المحاولة طرح تعاليم او محاضرة في الاسلام بل هي في وعاء التذكير بايات الله ونظمه التكوينية عسى ان تكون ذكرى نافعة لمن تنفعه الذكرى
الحاج عبود الخالدي
تعليق