أم الحضارة
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
الحضارة لفظ لغوي يكثر استخدامه في مجمل الانشطة الفكرية العقائدية او السياسية او الصناعية اوغيرها ورغم ان مصطلح الحضارة مصطلح كثر استخدامه مؤخرا الا انه يشمل الانشطة البشرية القديمة ايضا فنسمع اليوم حضارة البابليين او حضارة وادي الرافدين او حضارة مصر القديمة .سطور صفحتنا سوف لن تتعامل مع لفظ الحضارة لغويا او تاريخيا او لغرض الترويج لمعنى الحضارة بل ان مهمة هذه الاسطر تنحسر في كشف معايير الانتساب للحضارات بصفتها الموضوعية ولن تضيف تعريفا للحضارة الى التعاريف التي يصنفها المفكرون في مجمل الاختصاصات ولعل متابعنا الفاضل قد يحتاج الى مسرب فكري بالغ الهدوء ليتعامل مع الاسطر التي تقظم من وقته شيئا نسعى ليكون نافعا في عقلانيته وسط زحمة فكرية تتزاحم في البروز الى السطح حتى لو استوجب ان تكون الزحمة وفق نظم حلبات الصراع .
كل الناس عدا استثناءات بسيطة ومحددة تمتلك رغبة جامحة في ترك بصمة لها في حاضرة الانسان وكل انسان يمتلك تلك الرغبة الجامحة التي يترجمها الفرد في رغبة الانجاب ليكون اسمه بين الناس بعده ... تلك الرغبات تصل الى الاوج عند الكثير من الناس الذين يرغبون بشدة انجاب الاولاد الذكور دون الاناث لغرض بقاء الاسم رغم غياب صاحبه...
عند توسيع دائرة الرصد الفكري سنجد ان الكثرة الاكثر من الناس يرغبون في ترك اموال مادية لاولادهم لتخليد ذكراهم عندما يكونوا اغنياء فيسارعون لوقف بعض اموالهم لاعمال خيرية تبقي اسمهم ونشاطهم مخلدا بعدهم .
الاسطر الموجزة السابقة قد تحرك في عقل المتابع وصفا بسيطا للحضارة باعتباره رغبة لترك اثر من نوع ما لما بعد الموت , يكون حاضرا ... فتكون حضارة .. , هذه الرغبة قد تجعل من مفهوم الحضارة موضوعية فردية وليس مفهوما يخص امة كاملة او مجموعة امم متجردة من الحضور الفردي .
في هذه المعالجة تم تصغير مفهوم الحضارة وتحجيم وسعته البالغة الشاملة لامم متعددة وحقب زمنية طويلة وتمت عملية التصغير فكريا على طاولة مفتوحة بين يدي متابعنا الكريم وتصبح الحضارة بمفهومها المتعادل ذات خصوصية تصلح للاستخدام الفردي دون الحكر الاممي كذلك تمنح مفهوم الحضارة زمنا معاصرا وعدم اقتصار مفهوم الحضارة على حقب زمنية تضم عدة اجيال .
تلك المناورة الفكرية ستكون نافعة اذا اراد الفرد ان يحتضن حضارته قبل ان يتغنى بحضارة السابقين ليلصق نفسه بحضارة جاهزة ينسب نفسه اليها لاغراض نفسية شخصية روجنا لها في مقدمة السطور .
عندما يتغنى المصري بحضارة الاهرامات فانه لن يغني حضارته الشخصية شيئا يذكر فالصاق المصري او السوري او العراقي حضارته بحضارة الاباء والاجداد سوف لن يمنح نفسه فرصة التخليد التي تمثل اعلى صفة تتمتع بها الحضارات السابقة .
هذا المنحى الفكري يرتفع الى سقف العقل عندما يريد المتحضر ان يساهم في حضارة جيله فيخلد اسمه باعتباره جزءا من الحضارة التي يحتضنها سواء كان شيوعيا او رأسماليا او عقائديا او عرقيا لان الرغبة في الخلد موجودة في المتحضر نفسه وعندما يريد ان يكون متحضرا بموجب النظم الفكرية التي يحتضنها كأن يكون من امة عربية او امة فارسية فانه سيحصل على بطاقة دخول زائفة لتلك الحضارة التي يريد ان يمارس حضارته فيها ..
الصفة الزائفة لبطاقة الدخول الى الحضارة للمتحضر تكمن في فرصة التخليد وتلك الفرصة سوف لن تشمله كفرد قد احتضن تلك الحضارة وان الخلد سيكون من نصيب صناع تلك الحضارة فالحضارة الشيوعية مثلا لم تخلد من محتضنيها الا صناع الفكر الشيوعي اما من احتضن الشيوعية وتحضر بها فهو ليس اكثر من مداد كتبت به عملقة صناع الفكر الشيوعي ونجد في حضارة فرنسا مثل اخر عندما نرصد سجناء الباستيل الذين سجلوا شرارة الثورة الفرنسية الحاسمة الا ان احدا لم يخلدهم بل ان الخلد الحضاري كان لصناع الثورة الفرنسية .
الاثارة الفكرية المثورة على هذه السطور لا تشترط الاستقالة المطلقة من كل حضارة ليقوم الفرد العادي بصناعة حضارة شخصية لنفسه ليخلده التاريخ فعندما تضاف فقرة الى حضارة معينة من خلال اناء فخاري فان صانع تلك الآنية يكون قد سجل حضورا حضاريا من خلال الآنية الخزفية التي صنعها بيده لذلك فان هذه الاسطر سوف تضع النقاط على بعض الحروف التي يصعب قراءتها بلا نقاط بسبب اندفاع الكثيرين لاحتضان فكر محدد لغرض الفوز بطود حضاري متميز وكثير منهم يحتضنون حضارات لا يمتلكون القناعة الكافية فكريا بها بل ان الاحتضان قد تم لاسباب مزاجية وطنية او عرقية او عقائدية ونلمس دقة هذه المعالجة الخطيرة من الانقلاب الكبير الذي ينقلبه المتحضرون بشكل مفاجيء وغالبا ما يكون الانقلاب الفكري يساوي 180 درجة هندسية ..
نلمس ذلك واضحا عندما احتضنت الجماهير الشيوعية الحضارة الرأسمالية بشكل سحري بعد انحسار السلطة الاشتراكية من الواجهة السياسية ومثل ذلك الانقلاب المعاكس لم يشمل الناس الذين كانوا في حضارة اجبارية كما في الفكر الراديكالي الاشتراكي بل ان منظرين للفكر الاشتراكي انقلبوا فجأة وكذلك القاعدة الشعبية التي نشأت في بيئة اشتراكية ولا تمتلك حتى مقومات الاعتراض على الفكر الاشتراكي ولم تكن مجبرة على احتضان الفكر الاشتراكي الا عندما يتم استفزاز تلك الجماهير وطنيا .
من الحضارة الاشتراكية المنقلبة يستطيع الفرد الذي يريد ان يختار حضارة ليتحضر بها ان يكون حذرا في اختياره لان سجناء الباستيل الذين حرروا باريس سرعان ما اعدموا في شوارع باريس ومزقت اجسادهم وهم وقود ثورة الامس ولكنهم اصبحوا وقود الانقلاب عندما غير صناع الثورة الفرنسية منهجيتهم .
عندما تكون هذه المعالجة قاسية فان عملية اختيار المنظومة الحضارية التي يختارها الفرد ستكون اكثر قساوة لان سطورنا قد تطالب من كل شخص ان يكون فيلسوفا ومطلعا على مجمل موارد الفكر لكل الحضارات لكي يتم الاحتضان الحضاري الامثل .
مثل هذه القساوة سوف تفقد المتابع لتقريرنا هذا أي جدوى من التقرير وتجعل منه حشو كلام لا يسمن ولا يغني في حكمة الاختيار .
المتحضر المنتسب الى حضارة معينة كأن تكون حضارة عقائدية او حضارة علمانية عليه ان يعي موضوعية الانتساب الى تلك الحضارة او تلك .. عدم الوعي الحضاري دفع بكثير من الناس الى قبول كل شيء جديد باعتباره موصوف بالصفة الحضارية .. كثير من المجتمعات استنسخت حضارة الاخرين بما فيها العادات الاجتماعية تحت مراشد الاحتضان الحضاري ..
هنا تكمن الحاجة الفكرية لاثارات هذا التقرير بحيث يستطيع متابعنا الكريم ان يمسك بمورد الحكمة عند الاختيار الحضاري لحضارة جاهزة للتطبيق لان ليس كل الناس سيكونون صناع حضارة بل ان خيارات التحضر ستكون على قائمة قليلة العدد فيكون الفرد الاعتيادي قادرا على الاختيار الحضاري ولكن عليه ان يتعرف على معايير الاختيار قبل الاختيار
المعيار الذي يتألق في مهمة سطورنا هذه هي ما ورد في بداية السطور من الحضور الفاعل للنزعة الفردية في ترك اثره لما يأتي بعده .. هذه التركة التي يسعى الفرد لتركها قائمة بعده تمثل المعيار الاكبر حجما ابى المتحضر او رضي لان تلك النزعة مزروعة في كل صدر انساني بلا استثناء الا بعض المنحرفين الذين لايمتلكون رغبة مشابهة لرغبات قومهم او الرغبات الانسانية عموما ..
العازفون عن الزواج او الانجاب قلة قليلة ونادرة والعابثين باموالهم وتراثهم تخريبا وتمزيقا قلة ايضا وسواد الناس الاعظم ساعون بجد واجتهاد لترك اثر انساني لانسانيتهم وهو مكمن جوهري ورئيس في البناء الحضاري ...
نزعة البقاء منحسرة عند عموم الناس لقناعة كل الناس بلا استثناء بقبول فكرة الموت وبقبول حدث جلل كالموت تقوم في النفوس نزعة السعي لترك الاثر لما بعد الموت ليقوم الطود الحضاري الكبير الذي تسعى اليه الاجيال فكل جيل يسعى لتخليد نشاطه سواء بالشعر المنسوب لشاعره او بالرواية المنسوبة لمؤلفها او بتمثال متين يتوسط المدينة لثائر او كاتب معاصر او بجامع كبير يحمل اسم المتطوع لبنائه اواختراع مسجل باسم مخترعه وكل ذلك النشاط (المسجل) يمثل بمجموعه حضارة ذلك الجيل ...
ترك الاثر اذن من متطلبات المتحضرين وهو نشاط قد يبدو جماعي التفعيل الا ان الراصد للحضارة بمجهر فكري سيرى افرادا وليس جماعات .
عند هذه النقطة سيكون كل فرد من افراد المجتمع الانساني صانعا للحضارة شاء او ابى ولكن تلك الرؤية الموضوعية لقيام الحضارة ستكون ضيقة وتحتاج الى مجهر فكري يستطيع تكبير الحقيقة الاف المرات .
في اول عملية تكبير فكري لو رصدنا بعين الباحث عن الحقيقة وليس بعين المتفرج سنجد ان حضارة منظومة الطب تمتلك سجلا حضاريا مرتبطا باسماء الفاعلين حضاريا بتلك المنظومة حتى ان بعض المفردات سجلت باسماء اصحابها مثل (عصيات كوخ) وهي جراثيم مرض السل التي اكتشفها العالم كوخ ونجد ايضا ذلك في علوم اخرى ونسمع عن اسماء لوحدات علمية مثل (واط ) للعالم جيمس واط وامثال ذلك كثيرة جدا .
تتألق مراشدنا الفكرية على هذه السطور لدعوة طلاب الحضارة الى حقيقة قد تكون غير مرئية وهي في رصد موضوعية التحضر المنضبطة انضباطا فرديا محضا ولم تتحول لحالة العجز الى طلب التحضر الجماعي دون الفردي ..!!
اذا كانت لكل شخص بطاقة حضارية فردية فلماذا الاستقالة منها لاحتضان حضارة جماعية ..؟ هل من الحكمة في الاختيار هو الانضواء تحت حضارة جاهزة او اعتماد حضارة مستنسخة من مجتمع معين ..؟
لا يستطيع كل فرد ان يكون شكسبير او ان يكون الجاحظ او غيره من الحاصلين على بطاقات حضارية فردية ولا يمكن قبول التجزئة الحضارية لفرد محدد وفصله عن الحضارة التي ينتسب اليها فالخليل الفراهيدي مثلا هو جزء من الحضارة الاسلامية ولا يمكن فصله عن تلك الحضارة فكيف يكون التحضر حق فردي منفصل عن المجموع ..؟
الاجابة على ذلك التساؤل يمكن ان يتضمنها سؤال يوجه للفراهيدي وهو هل قام الفراهيدي باستئذان المسلمين عندما وضع كتابه (العين) ...؟ هل من يريد ان يحتضن موضوعية الحضارة يحتاج الى قبول جمهور المتحضرين الذين ينشط فيهم ...؟ الانتساب الحضاري للفراهيدي وغيره من المتحضرين قرار لاحق على النشاط الحضاري وليس قرارا يسبق النشاط
العالم "جيمس واط " تم تنسيبه لجيل حضارة بداية النهضة المادية ولو بعث "جيمس واط " حيا ليصادق على قرار الحاقه بحضارة النهضة ربما سيرفض ذلك القرار ويطلب انتسابه لوطنه او مدينته كذلك الفراهيدي لو سئل الى أي حضارة تريد ان تنتسب ربما لاختار الحضارة العربية وليس الحضارة الاسلامية ونجد ذلك واضحا في مسميات صناع فقرات تلك الحضارة فذلك بيروني وهذا كيلاني وذاك بغدادي او بخاري وتلك المسميات التي اختارها اولئك الصناع كانوا يبذلون جهدا لبرمجة اثرهم برمجة فردية وليست جماعية وان تجميعهم في وعاء حضاري له اسم انما حصل من اجيال لاحقة وليس من جيلهم او من قرارهم كذلك لو قلنا ان امرء القيس شاعر العرب فربما يرفض ويريد الانتساب الى حضارة عشيرته ...
تلك التثويرات هي لتحديد مسار العقل لغرض محدد هو ابراز الدور الحضاري لطالب التحضر ... هل عليه ان ينصهر في حضارة قومه او حضارة وطنه او يخضع للفكر السياسي العائم او ان يكون مستقلا بحضارته ... ؟؟؟
واذا كانت سطورنا تطالب بالاستقلال الفردي لطالب الحضارة فكيف يكون السبيل لتعميم هذا المطلب على كل فرد وليس حكرا للعباقرة ...
لو تمعنا قليلا بمجهرنا الفكري المفترض لوجدنا ان العباقرة انفسهم ما طلبوا العلو الحضاري الا لانفسهم ولم يكونوا ليعلموا ان نشاطهم الحضاري قد التصق بمسميات حضارية لا شأن لهم بها فالبخاري رحمه الله ما جمع الحديث الشريف لنفسه بل ليكون اثرا من بعده ولكنه عندما وضع لقبه (بخارى) ليس لغرض الصاق عمله بحضارة مدينة بخارى بل كان اسم بخارى كمدينة للتعريف به هو ... واذا كان هدف البخاري في جمع الحديث ليفوز بثواب الله خدمة للاسلام فتلك الضابطة تخرجنا من الوصف الحضاري بمفهومها المعاصر الى وصف بعيد كل البعد عن موضوعنا الهاديء (البارد) لان في الاسلام العقائدي يثبت ان الدنيا هي متاع الاخرة وان فكرة المعاد بعد الموت تهشم أي فاعلية للفكر الحضاري المعاصر المروج له على هذه السطور ...
نفس المنحى يتم تطبيقه على جيمس واط فهو لم ينشط لتغتني الشركات التي طبقت نتاجات جيمس واط وتثري ثراءا فاحشا بل لكي يثري تراثه هو من بعده وعلى نفس الطاولة الفكرية التي صاحبت بها متابعي الكريم بهدوء بالغ ارسم له نهاية الخارطة الفكرية المروج لها في الهمة الحضارية التي يسعى لها الافراد والامم كامنة في فهم الاثر المتروك لما بعد الموت ...
في هذه النقطة ستظهر حرارة غير اعتيادية رغم ان طاولة البحث باردة جدا وهنا تبرز تحت المجهر الفكري فكرة الاثر الذي يتركه طالب الحضارة دون ان يشترط لنفسه ان يكون عبقريا مثل نيوتن او قائدا مثل نابليون بل عليه ان يحتضن ما هو اسمى واجل واكثر حكمة واوفى عطاءا الا وهو
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46)
باقيات صالحات عند ربك خيرا ثوابا وخير املا .... انها هدف حضاري لا يفوقه هدف وهو جهد فردي لا يمكن مصادرته ولا يمكن الصاقه باي حالة سوء قد تكون في ما بعد الموت فلو ان هارون الرشيد يصحو في زماننا ليرى ان هنلك فرقة للرقص سميت باسمه (فرقة الرشيد للرقص الشعبي) فانه سيندم على ما تركه من حضارة دنيوية لانها بحاجة الى حضارة ما بعد الموت !!!!
اوبعد هذا الحديث من حديث .. انها الحضارة الام ... انها لطالبي الحضارة .. فمن شاء فليتخذ مقعده من حضارة لا تخيب ابدا لانها هي هي
(خير املا)
(خير املا)
الحاج عبود الخالدي
تعليق