أبصرتُهم من ثُقب مسافة قصيرة يَلهثُون، يَلْفحُهم هَجِيران :
هَجيرُ محرقة غزَّة، وهجير الخُسران.
يرسفون في قيود صمَّاء تَجرُّهم، تسحب نواظرَهم كي لا يُبصروا أُفْقَ اليقظة.
ووراءَهم حاخاماتٌ كنتُ أراهم على الخَشبات في مسارِح الحوار.
أراهم الآنَ في دبَّابات بزيِّ الحصار، يفترشون زِيَّهم المدنيَّ القديم
على مقاعدهم داخلَ الدبَّابات ،
لا يُظهرون منه إلاَّ قَلَنسُوات، قد لَمَّعوها ببريق من شحمِ الخِنزير.
وفي خلفية الصُّورة محرقةُ غزَّة الجارفة، تُهيمن على خيارات الإخراج ،
ولمساتٌ تُفجِّر من بعيد ألغامَ المعاهدات ، وأنهارٌ من دماء ،
ورَحًى تمور خلال أخاديد الجراح ، تلتهم بياناتِ القِمم التهامًا.
وخليط أصوات يُدني الآسرون مكبِّراتِها من آذان الأسرى ،
فيها أنينُ المهدومين والمنكوبين ،
وصراخ الجرْحَى والثكالَى والمظلومين، ودَويُّ رعود يُسكت قلوبَ المنعَّمين .
أوقفتُ العَرْض السَّريع ، وأعدتُه بنظر المتأنِّي لئلاَّ أُلدغَ من الجُحر الثاني ،
أو أُغْبن في عبرة الحَدث، وآية هذا المشهد الجَلل الحاسم.
فلمَّا آلمني وخْزُ الدَّنيَّة ، ولم يُسعفني تبرُّمي وتضوري ، صِرتُ أطلب شفاءَ صدري ،
فخرقتُ الصُّورة كي لا يأسرني فاصلُ الإشهار والانتظار .
مضيتُ نحوَ الأسرى أَعْدو لأقطعَ كلَّ المسافة، وأستغني عن كلِّ الثُّقوب ،
أدخلتْني غزَّةُ إلى المشهد من بابها الجلي ، ومكَّنتْني من مكان حقيق بما قصدتُ ،
فهمست في آذان الأسرى: ما بكم؟
قالوا: نحن أسرى الحِوار والسلام ، سلام ألْفيناه هشيمًا تذروه الرِّياح ،
حسبناه حريًّا بجَلْب النَّصر دون غِلاب ، غرْسناه وسقيناه من سَراب .
وهؤلاءِ الذين يسوقوننا هم الحاخامات الذين حاورناهم ،
صافحناهم يومَها وبذلنا لهم سماحةَ الإسلام ونحنُ ضِعاف،
لا نظامَ لنا، ولا قوَّة، ولا سلاح،
فما كِدْنا نفترق حتى (عضُّوا) علينا (الأنامل من الغيظ) ،
وما كِدْنا نصل إلى ديارنا حتى ركبوا مطيةَ الغادر، فضربوا دونَنا ودون أهلنا الحِصار،
وأوْصَدُوا بيننا وبينهم المعابر ،
وإذا بهاتفٍ لا يردُّه رعدُ الحرْب عن أسماعنا : {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 119].
فلَيتَنا أقمْنا بين أهلنا نُقاتل أو ندفع، إذًا لَعلَوْنا تلَّ غزَّة،
وقلنا لهم: {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119].
قلت : هذه جولةٌ فات أوانُ استدراكها ،
وحصون أرى غزَّة وحْدَها تنافح دونَ استردادها ،
لو اكتفتْ بغصنِ الزَّيتون، ونِضال الفُنون، لابتلعَها همجُ الوحوش .
قالوا : أجَلْ، وإنَّما أسكتنا سوطُ الخجل ،
كان لنا من جُنح الهُدنة مخايلُ نُزخْرِف بها شعارَ هذا الحِوار ،
فلمَّا قُصِفتْ غزَّة أيقنَّا أنَّ ما بيننا وبين القوم حربٌ أصيلة ذات غمار
تَحرِق الآن في أيدينا قراطيسَ كانوا أبدَوْها لنا خداعًا واحتيالاً.
قلت : صدق الله القائل: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] ،
ثم التفتُّ إلى الوراء، فإذا بالمسافة بين الأسرى وبين آسريهم تتباعد .
ثم تطلعتُ ، فإذا بدبَّابات اليهود تُجلِّيها من بسط الله سوانحُ الانسحاب .
أعدتُ خلفية الصورة إلى واجهتها؛ ليبقى شاهدُ غزَّة مهيمنًا على التوقُّعات،
فلا يُبعد عبيرُ الصُّعَداء رهجَ
السنابك، ولا تُهدر دماءَ غزَّة الزكيَّة الغالية صنيعةُ سلام جديد.
أشعرتُ الأسرى بالانسحاب؛ ليكسروا قيودَ الأيدي والنواصي.
ثم قلتُ: هلمُّوا، دونكم حريق غزَّة، اشْحذوا به سيوفَ اللِّسان، وافتنوا أسنَّة البيان.
تعليق