الدولة الحديثة والخلافة الاسلامية
من اجل حضارة اسلامية معاصرة
المسلمون يتفقون جميعا ان الخلافة الاسلامية حملت صفات الاسلام حصرا في الخلافة الراشدة قرابة ثلاث عقود من الزمن وان الخلافة الاسلامية كمنظومة اسلامية تصدعت بعد ذلك وقد اختلف المسلمون حول حجم التصدع فمنهم من وصف الخلافة الاسلامية بعد العصر الراشد بالانهيار ومنهم من وصفها بالتصدع والفكر المستقل يستطيع ان يحسم الرأي ان المسلمين لا يضاهون الخلافة الاسلامية مع العصر الراشد حيث اعتبروه العصر الذهبي للخلافة رغم كثرة الموصوفات وكثرة المديح والطعن في الخلافة الاسلامية عموما الا ان العصر الراشد يبقى في حماية الوجدان المسلم بشتى اطيافه عدا بعض الاستثناءات ..!!
الحكم الدنيوي عموما وفي كل الارض كان يخضع الى تنظيرات الصلاحيات الدينية فالحاكم يستمد سلطانه من الخالق وقد وصفت الخلافة الاسلامية بكافة حقبها الزمنية بنفس النظرية وهي نظرية شاملة تقريبا في كل الارض والمعتقدات فزعامة اوربا مثلا كانت تستند في سلطانها من البابا كما يستمد السلاطين والملوك صلاحياتهم من الكهنة وزعماء الطوائف الدينية في شرق الارض وتوجد بعض النظريات ان السلطان هو ابن الاله او ابن اقوى الالهة ولعل عموميات صلاحيات السلطنة كانت مستمدة من الخالق ..
بدأ التغيير نحو تنظير جديد مع الفرنسي (جان جاك روسو) الذي بدأ يروج الى ضلالة امتياز الحاكم من مصدرية الهية وحصرها في مصدرية جماهيرية فجاء بنظريته التي اعتمدت في بناء افكار الثورة الفرنسية الاولى وانحسر التنظير الحديث في مصدر(صلاحيات الحاكم) بصفتها (تنازلات جماهيرية) يقوم الجمهور من خلالها بالتنازل عن حق من حقوقه الطبيعية في تسيير شؤونه وتسليمها الى شخص معتمد لغرض ان يكون سيدا في تسيير الشؤون العامة فيكون (حاكم البلاد) نتيجة حقوق ممنوحة من الجماهير (الشعب مصدر السلطات) .
نظام البيعة في الخلافة الاسلامية يختلف كثيرا عن شعار (الشعب مصدر السلطات) لان الخلافة الاسلامية تعتمد على منظومة اسلامية تكون فيها (الولاية لله) ويكون من جراء ذلك (الله مصدر السلطات) وقانون الله هو النافذ ويكون الحاكم (الخليفة) هو شخص تختاره النخبة من المجتمع الاسلامي عندما يكون قادرا على تنفيذ حكم الله وهو لا يمتلك ناصية حكم خاصة به او بمزاجه ..!! أي ان (الخليفة) لا يشترط فيه العبقرية بل يشترط فيه طاعة الله وان اختياره من قبل نخب المسلمين (البيعة) مبنية على شهرة طاعته لله بحيث يكون مؤهلا لتنفيذ قانون الله
اذن موضوعية الخلافة تختلف من حيث المضمون التنفيذي عن النظرية القديمة (يستمد صلاحياته من الله) وعن النظرية الحديثة (الشعب مصدر السلطات) وبالتالي فان صناعة قاعدة حكم تعتمد على نظرية الخلافة الاسلامية الحق مفقودة في المجتمعات منذ انكفاء الخلافة الراشدة ليومنا المعاصر وان العودة الى منظومة الخلافة تستوجب العودة الى فهم صفات المجتمع الرسالي الاول الذي صاحب نزول القرءان فصحبة نزول القرءان كانت الاهم والاكبر من صحبة رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام وذلك من خلال ثابتة عقائدية تصرخ لتؤكد ان هنلك غشاوة على عيون المسلمين الذين جعلوا من صحبة الرسول اكثر قدسا من صحبة القرءان ..!! ونرى تلك الثابتة التي ان دحضها احد انما يدحض مرتكزات عقائدية مركزية ..
(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )(البقرة: من الآية272)
(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18)
هذه ثابتة قرءان (دستور المسلمين) وامر الله وحكمه يؤكد ان الرسول عليه افضل الصلاة والسلام لا يمتلك (صلاحيات) هداية الناس وان هداية الناس امر الهي وان تقول قولا والرسول يقول قولا والصحابة يقولون قولا وان وجد من يستمع لأحسنه الا ان الهدي من الله (اولئك الذين هداهم الله)
هذه الثابتة يؤكدها نص اخر غاية في الرقي العقلي لو ادركها العقل
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الانبياء:73)
فلا هداية الا بامر الله حصرا وان الإمام ان يوحي اليه ربه هو (فعل الخيرات) وإقام الصلاة وفعل الزكاة وهم يعبدون الله مثلنا ...
ومن هذه الثابتة المطلقة في القرءان يظهر ان القرءان يعلو فوق هذه المعالجة فيكون القرءان مالكا تكوينيا للهدي والهداية
(إِنَّ هَذَا الْقُرءانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الاسراء:9)
فالصحابة الحق هم أصحاب القرءان فهم المهديون بوسيلته واذا كانت صحبة رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام منقطعة بقبضه الى الله فان صحبة القرءان قائمة بين المسلمين حتى ينتهي برنامج الانسان على هذه الارض فلا رسول بعد رسول الله محمد عليه افضل الصلاة والسلام ولا كتاب سماوي اخر حتى ينتهي دور الانسان في هذا الكوكب ...
صحبة القرءان في فهمه والاستقالة عن فهمه وايكالها الى اخرين (مفسرين) يعني فقد رابطة الصحبة مع القرءان ... لا يشترط ان يكون كل المسلمين اصحاب القرءان ولكن طائفة منهم يصاحبون القرءان فيكونون كاصحاب رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام (عدد محدود) ولا يشترط ان يكون كل المسلمين صحابة الرسول ...
هذه الثابتة سوف تضع المسلم المعاصر في بوتقة فكرية ذات درجة حرارة عالية لغرض تنقية العقل المؤكسد عبر التاريخ والبحث عن صحبة للقرءان فيها خلاص المسلمين من يومهم الاسود ...
الدعوة الى خلافة اسلامية لا يمكن ان تبني اساسياتها على مبدأ ماسوني تم بناؤه في مؤلفات (جان جاك روسو) الذي رسخ ان (الشعب مصدر السلطات) بحيث تقوم الخلافة الاسلامية استنادا الى قبول جماهيري من قبل المسلمين لانتخاب الخليفة فلان او فلان ليقوم النظام الاسلامي في الخلافة ..!! انها دعوة لا تختلف كثيرا عن منهجية الماسوني (جان روسو) الذي منح الناس حق تنصيب الحاكم ... الخليفة في الاسلام ينبع نبعا من المسلمين ويقوم فيهم الخليفة بامر الهي وليس بمصادقة جماهير المسلمين لانهم (ائمة يهدون بامرنا) ولن يكونوا بامر فئة من الناس كما يتصور كثير من المسلمين ..
البحث عن حاكم عادل يختاره جمهور المؤمنين لا يرتقي الى صفة (خليفة رسول الله) فرسول عليه افضل الصلاة والسلام لم ينتخبه احد بل نبع نبعا في وسط متصارع جاهل لا يمتلك مقومات الرصانة العقلية (الجاهلية) وكان القرءان معه من يومه الاول بل من ساعته الاولى ... كل من حوله عاداه الا نفر قليل .. بل قليل جدا ... ولكن الله فرضه فرضا عليهم واهتدوا بصحبة القرءان النازل فيهم الذي غير كيانهم العقلاني فاصبح رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام فيهم (حاكما) بامر الهي ... وما ينطبق على رسول الله ينطبق على خليفته ... والا ... لن تكون خلافة اسلامية بمعناها ومضمونها التكويني وانما هي ارهاصة حكم تحت اسم (خليفة) كبديل عن اسم (الامبراطور) او (رئيس الجمهورية) او (جلالة الملك) ...
المسلمون قتلوا ثلاثة من خلفائهم الراشدين ...!! اليست تلك حقيقة تمثل ثابتة اسلامية لا مفر منها ... لماذا ..؟؟ لانهم تصوروا ان (الخليفة) هو (حاكم) يحكم الناس ... ولم يتعاملوا مع (الخليفة) بصفته (خليفة رسول الله) فقتلوا ثلاثة خلفاء من اجل ناصية حكم وليس من اجل منظومة اسلامية حقيقية يكون فيها الحاكم مستخلف من الله باستخلاف تكويني ينبع من الجمهور نفسه فان كان الجمهور بعيدا عن صحبة القرءان فيكون بعيدا عن مصدر الهداية (وسيلة الهداية) فيكون المجتمع غير صالح لنبات الخليفة نباتا تكوينيا يمكن ان يكون في صالحهم ويرفعهم فوق رفعة الاخرين ..!! وبالتالي يظهر بينهم حاكم يحكمهم يستمد قوته من سجن وسجانين ما انزل الله بها من سلطان ... لو استطاع العقل المسلم ان يدرك ان منظومة الاسلام لا تمتلك (سجن) واوامر الله ونواهيه ليس فيها سجن ... السجن ظهر بعد الخلافة الراشدة وهو دليل مادي يضعه التأريخ مجبرا على طاولة الفكر المستقل فيكون (السجن) دليل الخروج من منظومة الخلافة الاسلامية التكوينية التي فطرها الله في سنة خلقه (برنامج الخليقة)
الخلط بين النظرية الاسلامية والنظرية الحديثة لاقامة دولة اسلامية لا يتعدى عن كونه ارهاصة فكرية كاي تيار سياسي يدعو الى منظومة فكرية يرى فيها حلولا ذهبية كما كانت الافكار الشيوعية والوحدوية والعرقية والعقائدية ولا تزال انما هي مسارب فكرية تسعى الوصول الى السلطة من اجل الاصلاح والناس لا يصلحهم حاكم بل يصلحهم الله حصرا بموجب ثابتة عقائدية لا مفر منها والوسيلة قرءان وصحبته فان صلح الناس بقرءانهم نبت الخليفة فيهم رغم انوف سلاطين الارض كلها ورغم انف خلفاء (جان روسو) وازلامه المعاصرين
(كيفما تكونوا يولى عليكم) حديث شريف مشهور
الحاج عبود الخالدي
تعليق