سقوط الأمن عند سقوط الأمانة
من أجل نهضة إسلامية معاصرة
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72)
آية قرءانية تستفز العقل وتدفع حامل القرءان للذكرى وفيها ومنها تثويرة عقل يبحث عن الأمانة التي عرضها الله على السماوات والارض والجبال فأشفقن منها بعد الإباء من حملها ولكن الإنسان حملها ... فما هي تلك الأمانة ..؟ وكيف اصبح الانسان ظلوما جهولا ... !!
الأمن والأمانة الفاظ نتداولها في مقصدين منفصلين فالأمن في مقاصدنا هو (عدم العدوان) والأمانة في مقاصدنا هو (إسترجاع ما أؤتمن عليه المؤتمن) فإن اودع مالا عند (أمين) ضمن عدم العدوان على حيازة ذلك المال وارجاعه الى صاحبه وهنا يتحد اللفظان في قصد واحد (عدم العدوان) والنص القرءاني جاء بلفظ (الأمانة) في القصد المطلق يدل أن شيئا خاصا بالانسان قد تم تسليمه له بما يختلف عن السماوات والارض والجبال وبقية المخلوقات من حيوان او نبات فحملها الإنسان فكان بها ظلوما جهولا ..!! ونفس المنحى اللفظي يكون مع الايمان بالله فهي الأمانة نفسها عندما تـُسترجع الى الله فهو (الدَيْن) بذمة الإنسان المؤتمن عليه فيكون العبد الصالح قد أعاد الأمانة الى ربه بعد أن كان أمينا عليها فكان مؤمنا فجعل (عدم العدوان) في جنب الله فكان من (الذين أمنوا) انفسهم عند الله بارجاع أمانته اليه فيكون العبد الصالح (أمين) مؤتمن قام بارجاع ما أئتمنه الله عليه ... وهنا قائمة تقوم في منهجية القرءان المبني بلسان عربي مبين
عندما يكون القرءان مذكرا (ذي ذكر) نستطيع أن نحبو على البيان القرءاني لنتذكر تلك الأمانة التي حملها الانسان دون غيره من المخلوقات (السماوات والارض والجبال) ... فنقرأ
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )(البقرة: من الآية30)
وعندما نريد للذاكرة العقلانية أن ترفد معارفنا بمزيد من البيان عن مضامين تلك الخلافة ومقاصد الله فيها سنجد إن مقاصد الله في الخلافة قد وضعت في نص تذكيري حكيم
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26)
من ذلك المثل الذي حمله النص الشريف يتضح أن الأمانة في الخلافة وأن الخلافة تتضمن مضامين دستورية في قرءان الله وهي :
1 ـ الحكم بين الناس بالحق (عدم ركوب مراكب الباطل مع الناس)
2 ـ عدم اتباع الهوى (الغاء دستورية الرغبات الشخصية)
3 ـ عدم الضلال في سبيل الله (عدم الخروج من سنن خلق الله)
هنا تقوم الذكرى ونتذكر إن تلك الصفات الثلاث غير متوفرة في الخلق (السماوات والارض والجبال) ومثلها الحيوان والنبات وغيرها من المخلوقات فهي لا تمتلك تلك المساحة التكوينية لان تلك المخلوقات هي عبارة عن (مكائن) و (نظم) منضبطة رغما منها ولا تمتلك صلاحيات تصرف بل تمتلك منهجية تنفيذية محددة باطار مغلق غير مفتوح.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج:18)
فكل شيء ساجد لله ولا يمتلك صلاحيات الضلال او الحكم بين المخلوقات او أن تكون لها رغبات وقدرات لاشباع تلك الرغبات بل فطرت على نظم مقفلة الخيار فالابقار لا تستطيع أن تصنع لنفسها حذاء فكان كاحل قدمها صلبا متقرنا بصفته نظام خلق الا إن الإنسان يمتلك كاحلا رقيقا ويمتلك مساحة عقل أن يصنع لنفسه حذاء يستخدمها عندما يحتاج الحذاء ويخلعها عند الاستراحة والنوم (تنفيذ رغبات) ... من ذلك يتضح أن الانسان يمتلك مساحة تنفيذية منحت له من خالقه (أمانة في عنقه) فهو ذو صفة البنـّاء فهو (بني ءأدم).. ننصح متابعنا الفاضل بمراجعة ادراجنا (عندما تكون العقيدة ثوبا ..!) تحت الرابط :
عندما تكون العقيدة ثوبا ..!!
من تلك الثويرة الموجزة يتضح إن الانسان حمل أمانة بشكل واضح وإن سوء استخدام تلك الأمانة تضعه في دائرة الظلم والجهل (ظلوما جهولا) وبالتالي فإن الانسان سيكون غير أمين مع خالقه في ظلم وجهل وبالتالي فلا يصلح أن يكون أمينا مع الاخرين فتسقط عنه صفة الأمان لأنه أسقط الأمانة التي أؤتمن عليها ولن يكون من الذين آمنوا ..
إباء السماوات والارض والجبال (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) هو إباء تكويني وليس معصية مخلوق بين يدي الخالق فعندما يكون (مثلا) خزان الماء مملوءا بالماء فانه (يأبى مزيدا من الماء) فالإباء ذو صفة تكوينية لخزان الماء كما هي صفات السماوات والارض والجبال فإنها تأبى الأمانة لأن تكوينتها تأبى و (أشفقن منها) وذلك لأن تلك الأمانة ذات صلاحيات واسعة تزيد عن مساحتها التكوينية بسبب كونها نظم محكمة الإداء والنتيجة فلو طلبنا من الارض أن تنتج لنا بذور شعير معزولة عن سنابلها لأشفقت الارض من طلبنا لان تكوينتها محكمة في أن تنتج الشعير في سنابله ولو طلبنا من الجبل أن يغير موقعه لتوسيع مدينة من المدن لأشفق من طلبنا لان وجوده هناك وجود تكويني يتعلق بميزان دوران الارض واتزان حركتها بموجب نظم الفيزياء ولو طلبنا من الشمس أن تقلل من حرارتها على خط الاستواء فان الشمس سوف تشفق من طلبنا لأن ذلك يعني موت محقق للمخلوقات في المناطق الشمالية ... الاشفاق يكون لاحقا على الاباء يقينا (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) ذلك لأن تلك المخلوقات غير قادرة على حمل تلك الأمانة ولو تمعنا في سبب ابائها سنعرف فيها شفقة فحرارة خط الاستواء من حرارة الشمس وهي ساخنة فلو تم تخفيف حرارة الشمس الواصلة الى الارض سيموت الشماليون وفي تلك (شفقة) عليهم ولكن الإنسان حملها وأستطاع تبريد موقعه في خط الاستواء من خلال وسائل التبريد وقد منحه ربه خلافة في الارض ولكنه استخدمها بجهل وظلم فكان ظلوما جهولا ..!!
هنا تقوم اثارة عقل متسائل وهو عندما يكون للسماوات والارض والجبال اباء تكويني في حمل الامانه فكيف عرضها الله عليها وهو العارف بتكوينتها (فأبين) لانه خالقها ...؟؟!! الخطاب الالهي في القرءان قال (إنا عرضنا الأمانة ...) والعرض لا يعني إن هنلك أمرا الهيا للسماوات والارض والجبال بل إن العرض يعني إن نظم الخلق ونتائج تلك النظم في عرض شامل لكل المخلوقات (ترابطية الخلق) فالخلق اجمالا مترابط فيما بينه ويمكن فهم تلك المعالجة الفكرية كما تقوم شركة منتجة بعرض منتجاتها فالذي لا يمتلك نقودا لا يشتري لان وعائه المالي لا يمتلك قدرة الشراء (فأبى الشراء) ومن كان وعاء الحاجات عنده مليئا لا يشتري ايضا ومن ذلك نفهم إن عرض نظم الخلق على السماوات والارض والجبال قد تم من قبل الخالق من خلال ربط نظم الخلق فيما بينها وهي نظم مودعة في فيزياء وكيمياء وبايولوجيا تتواجد في كل مفصل من مفاصل الخلق (عرض) الا إن الانسان تخصص بحملها والله لم ياخذ موافقة الانسان على حمل تلك الامانة كأمانة مؤتمن عليها ولكن ذلك الإخبار الإلهي ينبيء عن نظام خلق تكويني من خلال مساحة عقل امتلكها الإنسان دون غيره وهي المستوى العقلي الخامس الذي اختص بالانسان دون بقية المخلوقات الارضية فاصبح سيد الارض وخليفة فيها (اني جاعل في الارض خليفة) .
عدم الائتمان الانساني وسقوط صفة الأمين عن الانسان هي مصدر فقده للأمن ونشوء الصراع البشري بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان ومحيطه الطبيعي ونرى ونسمع كيف تعيد الارض كيد الانسان عند سقوط أمانته في الطبيعة الارضية حيث ردت الارض كيد الله المتين في شكل (قارعة بما صنعوا) فنرى الاحتباس الحراري في تدهور بيئي خطير ينذر بكارثة بشرية وحياتية كبرى على هذه الارض بسبب استعمار الانسان للارض خارج سنن الخلق (حيازة) خيانة أمانة غير موفقة مثل الإستخدام المفرط للنفط مما زاد من حجم القارعة بزيادة حجم الرغبات الانسانية الباطلة بيد كارتلات إحتكارية لا تشبع رغباتها والناس يستجيبون لهم في اعتمادهم المبالغ فيه على الطاقة الاحفورية كما نراه ونلمسه بوضوح بالغ فما من إنسان الا ويشبع رغبته بحيازة سيارة وكل شيء يعمل بالطاقة والناس شركاء مع المجرمين في جرمهم فالذي يبني مرقص خليع هو آثم والمرقص لا يقوم الا بوجود الراقصين ... !!
(وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(الرعد: من الآية31)
أما سقوط الأمان الشخصي (عدم العدوان) فهو ايضا مسطور في القرءان بسبب تمسك الأءدميين بشجرة الخلد وملك لا يفنى وهي سبب خروج الأءدمي من جنته التي خلق فيها وهو في رحم إمه ومن ثم في كنف ابويه وكأنه في جنة موصوفة من خدمة وحسن ملبس ولبن لم يتغير طعمه طازج من ثدي إمه ويوم يبدأ بالاكل من شجرة الخلد وفيها ملك لا يفنى (إتباع الهوى) وإشباع الرغبات (حيازة كل شيء) يتم فيها الخروج التكويني من الجنة التي خلق فيها .. ونرى البرنامج الالهي بموجب تلك التصرفات (حيازة كل شيء بنهم شديد وبكل وسيلة) التي أسقطت الأمانة من يد المؤتمن أمانته ونراه واضحا في نص تذكيري شريف
(فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءأدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طـه:121)
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (لأعراف:24)
سوأة الإنسان في حبه الكبير للحيازة المادية ويظن أن الخلد فيها (الحيازة المادية) فيأخذ من ورق الجنة ليواري تلك السوأة (رغباته) والتي تولدها (الغيرة من الأخرين) وتبدأ من طفولة الأءدمي فيغار من اخوته الصغار وتبدأ سوأته ويخصف عليها من ورق الجنة فيبكي ويبكي حتى يستجيب لمطالبه ابواه ويغدقون عليه من ورق الجنة ما يريد وعندما يكبر تكبر عنده الغيرة من عموم الناس ممن يحيطون به ويبدأ يخصف من ورق الجنة ليوراي سوأة غيرته من الاخرين وورق الجنة هو خيرات هذه الارض التي خلقها الله مسخرة للانسان دون غيره ولكن الأءدمي يريد كل شيء ان يكون له من ماله (في حيازته) ليخلد فتظهر سوأته تلك فيخفيها بذلك الورق فيكون قد خان الأمانه فكان ظلوما جهولا فاصبح بعضه لبعض عدو وهو مطرود من الجنة التي خلق فيها (جنة الارض) التي سخر الله فيها كل شيء للأءدميين ولكن الأءدميون خانوا الامانة فسقط عنهم الأمان في العدوان المتبادل بينهم (بعضكم لبعض عدو).
من ذلك نرى إن الذين آمنوا ينفقون من مالهم (حيازتهم) في (سبيل الله) ذلك لاعادة الامانة التي اؤتمنوا عليها في حيازة ما بين ايديهم فالصدقات والزكاة هي انما اعادة حيازة الاشياء الى شموليتها المطلقة فينالها المحتاجون لها وبذلك تقوم عند فاعلها (فاعل الزكاة) تأكيد أمانته على ما أؤتمن عليه شرط أن يتصف الانفاق بصفة (في سبيل الله) وليس في سبيل غيره
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * ....... وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ..... وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون)
رعاية أماناتهم هي من تلك الأمانة وتنوعها بين الناس فهي أمانات وهي تلك التي أئتمنها الله فيهم من خلال نظم التكوين في الخلق فأمنوا عليها فهم لها راعون وعليها يحافظون وعندما يسألهم ذي حاجة فمما أتمنوا عليه منه ينفقون :
(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذريات:19)
فمن لم يكن أمينا لما اؤتمن عليه فلا أمان له في حيازة مال أو في عدوان واتباع الرغبات
وتلك ذكرى فمن شاء ذكر : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55)
سلام عليكم
الحاج عبود الخالدي
تعليق