الرصيد العربي ...
حصل هذا في عصر السلطان قلاوون ،
انحدرت السيول العاتية من جبال مكة فاقتحمت الأرض العطشى والأبنية الواهنة حتى وصلت إلى قلب الحرم المكي الشريف وحاصرت الكعبة ونالت من أحجارها .
وعندما وصل الخبر إلى شوارع القاهرة انتاب الناس الفزع العظيم ، بدأ الآمر أمامهم كانه إحدى علامات القيامة في أوضح صورها ، صرخ الرجال وولولت النساء وهرع الجميع إلى الشوارع .... ثم الحشد تحت اسوار القلعة حيث يجلس السلطان في قصره الآبلق وهم يهتفون بالسلطان حتى يتدخل لإنقاذ بيت الله .
كانت الخزانة مفلس من كثرة الإنفاق على الحروب وقمع التمردات ... ولكن السلطان أخرج من ماله الخاص مبلغاً ضخماً ..وأسرع الناس يلقون بدراهمهم .وتطوع البناءون والنجارون والرخامون ولم تهدأ حركة المدينة الا بعد أن تجمعت قافلة ضخمة ضمت كل معدات البناء والتشييد ..وكانت هذه اول قافلة من نوعها تضم الصنايعية أكثر مما تضم من الحجاج أو الجنود وتوجهت جميعا الى بلاد الحجاز لانقاذ بيت الله من قبضة السيول .
وبعد حوالي سبعمائة عام من هذا التاريخ .. ضربت الزلازل بيوت مصر المحروسة. كانت بكل المقاييس زلازل متوسطة القوة ولكن في مدينة قديمة ومزدحمة مثل القاهرة تحول الامر الى ماساة . وفي حوالي 42 ثانية تهدمت البيوت وغارت الآرض ، وتشققت المباني الاثرية التي قاومت عواتي الدهر ، ووجد الآلاف أنفسهم بلا مأوى ..
لقد أثار الزلزال وما زال يثير الكثير من الاحزان .ولكن مصر اكتشفت من خلال هذه الأحزان رصيدها العربي .
بدا كان الزلزال لم يحدث في شوارعها فقط بل ضرب كل الشوارع العربية . ولم يحس فقط أهل مصر بالفزع ولكن القلوب العربية أصابها مس من الرجف .لم يظهر الآمر فقط في تلك المساعدات التي أسرعت الدول العربية بارسالها ، ولكن في شعور الصدمة التي عمت المواطن العربي حين عرف ما حدث لاخوانه في مصر . لقد تخطت هذه المشاعر كل الخلافات السياسية التي ما زالت تلتهم جهودنا وتبدد قوانا .. وبدا ذلك الرابط الخفي الذي يَعبر الطبقات السفلى ويعيش في المنطقة الدائمة من الوعي العربي ...منطقة تبدو فيها الحدود السياسية ندوبا باهتة فوق الجسد العربي المتواصل الذي يتألم في ايقاع وا حد ...ويشعر بالحنين في رعشة واحدة .
اكتشفت مصر انها لم تحارب ولم تضح عبثا ..ولم تتلقى أولى ضربات الغزو الغربي ولم تبقى رايات الجهاد المرفوعة عبثا. لقد حملت في التاريخ أثقله ، ومن المحن أشدها صعوبة ، ومن الآلام أمضها للنفس . وتحول كل هذا إلى رصيد حي ، رصيد لا ينضب لأنه يستمد أرقامه الخفية من كل سنوات الزمن العربي الموغل في القدم .
كتبه د . محمد مسني قنديل ، لمجلة العربي بتاريخ 1 / فبراير / 1993
( منقول ) للتاريخ
تعليق