منازلة مع الذات
من أجل ثوابت عقائدية مستقرة
ذات الانسان (تكوينته العقلانية) تمتلك مساحة كبيرة للتقلب ومن خلال خبرات الفرد الاجتماعية وتفاعله مع اطوار مختلفة من مجتمعه تتقلب عنده المستقرات العقائدية بين السلب والايجاب ولكل مقلب مضامين مؤثرة تؤثر بذات الانسان وتكوينته العقلية وتلك الظاهرة تمتلك خصوصية فردية مع من اثرت به وسببت ذلك المنقلب العقائدي ... عندما كانت المجتمعات الانسانية صغيرة والقرى والمدن قليلة مجتمعيا كانت المؤثرات السلبية اقل فاعلية والمؤثرات الايجابية اكثر فاعلية لان الناس بنسبة عالية جدا يعيشون ببساطة كبيرة وقلة نادرة فقط تمتلك وسعة في المال والشهرة (شهرة الفساد) وبالتالي فان علاقة الفرد بمجتمعه تأخذ الجانب الاعم الاكبر المعرف ببساطته وفطريته ... أما في الزمن المعاصر فان شهرة الفساد اصبحت عامة شاملة من خلال أن الارض قرية صغيرة وما يجري في اقاصي الارض يكون مشهورا في عموم الارض فتكثر فرص المنازلة الفكرية مع الذات وتحمل مزيدا من الاحتمالات السلبية لفارق جوهري بين الامس واليوم . من أجل ثوابت عقائدية مستقرة
في تجارب مجتمعية متعددة كانت بالنسبة لنا شرائح مختبرية تندرج تحت العنوان اعلاه نضع منها أمثلة ميدانية لتكون صورة الطرح واضحة ... تعرض احد الصالحين الى ازمة في عمله افقدته اتزانه المالي مما جعله يعاني من إزمة حقيقية ... فجأة انقلب على عقبيه وترك صلاته واصبح يقول في الله ما لا يرضاه اصحابه ..!! عندما وضعته تحت المعالجة الفكرية عرفت منه ان سبب ذلك كان من تقرير قرأه في صحيفة يومية عن أموال كثيرة تعود لغانية مصرية وكان ذلك سبب الانقلاب وهو القائل (نعبد الله وننفق من أموالنا ونصوم ونصلي ونرحم الاخرين ونبتعد حتى عن الشبهات واذا بالغانية افضل مني وأمولها خير من أموالي) .... في مثل اخر انقلب احد الصالحين بسبب لعبة ملاكمة قام بها ملاكم يمني الاصل قبض جرائها سبعة ملايين دولار من خلال فوزه بالسبق لبضع دقائق .. كانت تلك الحادثة سببا في منازلة فكرية مع ذلك الصالح في ذاته قلبت عنده ميزان الصلاح وهو يجتهد ويتعب ويجاهد من أجل دراهم معدودة متصورا إن الله معه ولكنه لم يقبض من الله مثل ما قبضه ذلك الملاكم اليمني الاصل ..!! فخرج من ايمانه وكأن ايمانه كان من الظنون وتم محق الظنون بفوز ملاكم بمبلغ كبير من المال ..!! رجل خرج من الصلاح هو وأولاده عندما انتصرت دولة اليهود على الجيوش العربية في 1967 وتم احتلال القدس ... فيما كان يعلنه وأسمعه منه وكنا في مرحلة الشباب إنه لن يرى الله في الوقت والمكان الذي كان يجب ان نرى الله فيه ..!! والغريب أن أولاده اتبعوه وتبعه مجموعة من الغاضبين على ضياع القدس ....! تركوا صلاتهم واختلفت نظم عيشهم .. كل ذلك لان منازلة فكرية جرت في ذواتهم مما كان يدلل ان مثل اولئك الناس لم يكونوا قد امتلكوا فكرا ايمانيا مستقرا او ثوابت عقائدية تحصنهم من قيام منازلة (ايجابيةالنتائج) مع ذواتهم الفكرية ..!! بل كانت منازلة (سلبية النتائج) مما اركستهم في ظلم انفسهم ..
(هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب:11)
ونرى إن ذلك برنامج الهي يستهدف ذوي القلوب الضعيفة لغرض غربلتهم وذلك يؤكد أن المؤمن الطامع بالعلياء في ايمانه أو أن تكون الدنيا على مزاجه وما يستحسنه هو انما تكون في دائرته الايمانية ثغرة يدخل من خلالها الفعل الشيطاني مثل النصر المادي الذي صنعه لاعب ملاكمة فكان سببا في أن تزل قدم المؤمن
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران:155)
ذلك يعني عدم ثبوت المادة العقلية الفعالة في دائرة الايمان وعدم الثبوت ذلك مرشح لقيام المنازلة مع الذات وتكون نتيجة المنازلة سلبية كما في الامثال المروجه
(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:94)
مذاق السوء هنا واضح بسبب أن :
1 ـ تزل قدم بعد ثبوتها
2 ـ الصدود عن سبيل الله
3 ـ مذاق السوء هو جزاء ذلك
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)
المنازلة الفكرية مع الذات هي فاعلية تكوينية وتلك الفاعلية التكوينية ترتبط بتكوينة العقل التي فطرها الله في الانسان دون غيره وعلى المؤمن أن يعي حقيقة يسطرها القرءان (ألا إن نصر الله قريب) والتساؤل الكبير ... كيف نصر الله قريب وانا لم أر منه شيء يذكر .. !! وهل القرب هو قرب زمن .. أم قرب مكان ... ؟؟ لا يمكن ان يكون قرب زمان لان الله يقول للشيء كن فيكون بل هو قريب موجود ولكننا لا نفهمه وإن ظهر فيه زمن في عقولنا فأن الحدث بين ايدينا هو الذي يحتاج الزمن وليس النصر مثله مثل موسى وشعيب الذي بقي في مدين ثمان حجج او عشر ذلك كان نصر لموسى ولكن عنصر الزمن يتحكم بالحدث وليس بالنصر
ناظور قرب النصر الالهي يختفي خلف ثنايا العقل وعلى العقل الايماني ان يقلب تلك الثنايا العقلانية ليرى قرب النصر الالهي في ثلاث حارات من حارات العقل
الاولى : هل المتفكر قد استنفذ نظم الايمان الثابتة ... لا يستطيع الفرد أن يجيب على ذلك التساؤل الا عندما يكون في الحارة العقلية الثانية
الثانية : هل حصل هو على النصر الفردي ومن ثم يطالب بالنصر الجماعي وهل للنصر الجماعي مستحقين ..؟ ذلك التساؤل لا جواب له الا عندما يكون الفكر في حارة عقلية ثالثة
الثالثة : هل للعقل شك في الوعد الالهي (ألا إن نصر الله قريب) ... هنا يزلزل العقل زلازالا شديدا ويظهر جواب الحارة الثانية والثالثة ... إن لم ير نصر بين يديه او يرى ضديد النصر (خسران) فذلك يعني ان عقلانيته تحتاج الى :
اولا : هل هو من الناجين وبين يديه نصر خاص به ..؟؟ فإن كان منصورا ذلك يعني انه على القول الثابت وان مزاجه في نصر القوم والجماعة في برنامج الهي مشمول بالغضبة الالهية فيكون النصر قريب بين يديه في كيانه الشخصي دون الكيان العام وعليه أن يصبر على أمر الله ويسعى لتحصين نفسه من سوء ما حوله لكي لا يصيبه ما يصيبهم .
الثاني : إن لم يجد حتى النصر الفردي بين يديه فذلك يعني أنه غير مشمول بالوعد الالهي لسوء أفعاله وفساد مسربه وهو انما ظن انه مؤمن صالح ولكنه في غير موقعه الصحيح وعليه أن يصحح مساره ويجتهد في صلاح أمره
في هذا المقام احتمالية فوز وخسران
احتمالية الفوز : ان يتهم نفسه بالقصور مع ثبات الوعد الالهي بالنصر
احتمالية الخسران : أن ينقلب على عقبيه ويخرج من دينه وصلاحه المزعوم ... خروجه على دينه هو برهان مطلق على إنه لم يكن مؤمنا اساسا وهو انما ظن انه من المؤمنين
ذلك لأن حاكمية الخير والشر محكومة بالحكم الالهي الذي يجب أن يستقر في راسخات المؤمن الفطرية أن الخير من عند الله والشر والفساد من عند انفسنا وإن لم تكن الفطرة فعالة في العقل بسبب حجم المتراكمات التي تحجبها فان القرءان يذكرنا
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41)
فالفساد الظاهر هو بما كسبت ايدي الناس ولن يكون مورد احتجاج على الله على ناصية فكرية ان الله خلق الشر والخير في وعاء واحد وأنه يرعى الفساد لحكمة إلهية ونتيجة ذلك كان التخريج الفكري ضالا عندما استنتج احدهم أن أموال الغانية خير من أمواله في مثلنا المروج اعلاه ... وفي المثل الآخر كان ضياع القدس هو فساد بما كسبت ايدي الناس فلو كان الناس على دين الحق غير مختلفين متواددين متعاضدين كما امرهم الله (انما المؤمنون اخوة) فلن يكون للقدس سقوطا بين ايدي اليهود ... كذلك الكافر وقوته فان قوة الكافر هو فساد يتفعل في وعاء بشري فاسد ايضا ولن يكون للفساد فاعلية في وعاء المؤمن او مجموعة مترابطة من المؤمنين ..!
إحتمالية الخسران عندما تكون في مساحة عقل المتفكر ثوابت غير ثابتة فهي (ظنون ايمانية) وليست (يقين ايماني) فتكون المنازلة الفكرية مع الذات دليل أن الذات لم تكن مؤمنة وهو دليل كبير حاسم من خلال اعتراض ذلك المؤمن بالظن على الله
انها ذكرى لمن شاء ذكر عسى أن تنفع الذكرى .. إن الذكرى تنفع المؤمنين .. يعني انها لا تنفع غيرهم ..!!
الحاج عبود الخالدي
تعليق