وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ
من أجل فهم منظومة الدنيا والاخرة
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:64)
لو كانوا يعلمون ...!!
الفكر العقائدي التقليدي يضع لمفهوم الاخرة ظرفا زمنيا يتأتى بعد الموت حصرا ولا يمتلك الفكر العقائدي الاسلامي أي بيانات اخرى عن مفهوم الاخرة او (اليوم الاخر) الا في وعاء الميعاد بعد الموت .... على منصة الفكر العقائدي لا بد ان يكون للدين وعاءا عقليا بشريا يحمل العقيدة وبخلاف ذلك فان غير العاقل لا دين له ولا يحتمل التكاليف سواء كانت دينية او مجتمعية فالمجانين الذين يفقدون عقلهم يفقدون معها صفة (المسئولية) في الدين لانهم غير قادرين على حمل العقيدة تكوينيا بسبب افتقادهم للعقل ... من تلك الانطلاقة الفطرية يمكن ان نتعامل مع مفهوم (اليوم الاخر) او (الاخرة) بصفتها المحمولة في العقل الذي نحوزه في حياتنا اليوم ونستدرج القانون الالهي من تحت سطور رسالة الله ومعنا عقولنا الحمالة لتلك النصوص وفيها مطلب الهي حمله متن الرسالة الالهية الكريمة وهو (لو كانوا يعلمون ...!!) فكيف يكون العلم بما بعد الموت حيث يعجز العقل عن حمل المعتقد في مثل تلك الافكار الدينية عن احداث ما بعد الموت فلو عرفنا الحدث في حياتنا نكون على (علم) بما يحدث بعد الموت ..!! لان سنن العقاب والثواب واحدة .
حين تكون (الحياة دنيا) فهي تمتلك (اخرة) ولا بد من أي بداية ان يكون لها نهاية وتلك من بديهية فطرية نمتلك اجازة قرءانية في اقامة الدين وجهة الفطرة دون غيرها والتي فطرها الله فينا وارسل رسالته بما يتوائم معها حتما فلا يمكن ان يرسل الينا ربنا رسالة لا تحتملها عقولنا ...
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)
من تلك المعالجة الفطرية سوف نرى ان (اليوم الاخر) او (الاخرة) لا بد ان يكون لهما سابق يسبقهما وهو (يوم البديء) فمن لا يحضر الدنيا بداية فليس له اخرة او يوم اخر وذلك نتاج عقلي فطري ايضا
تلك الصفة التي يتعامل معها العقل (بلا ريب) تسهم في احاطتنا العلمية على قانون الله الخاص في (بداية) و (نهاية) كل فعل ونشاط (لو كنا نعلم) فلا دوام مطلق لاي ناشطة او حراك الا لله (الدائم) حصرا والله ينبئنا في قانونه المسنون في سنن الخلق ان البداية (الدنيا) وان امتلكت (خيار الباديء) فيها الا ان اليوم (الاخر) او (اليوم (الاخير) يفقد فيه الناشط حيازة بداية خياراته فلا مرتجع ليوم البديء ولا يمكن وقف فاعلية البداية من حين بدأت ومن حيث بدأت وذلك الوصف يقع حتما في نهاية ما نشط به الانسان ابتداءا في تلك البداية الناشطة فهي التي اوصلته الى خاتمة العمل الحتمية الحدوث حيث تفعل نظم التكوين فعلها في استقبال كل ناشطة بشرية لتفعيل نتائجها في نهاية الفعل ونفاذ فاعليته كما هي حياة الانسان منذ نضوجه العقلي الذي يتصف بصفة (حمال عقل) أي حين يكون في عمر يفي متطلبات حمل التكاليف العقائدية الى يوم قبره وتلك هي رابطة واضحة عقلا بين (الحياة الدنيا واليوم الاخر) او (الاخرة) فان كان الزاني او السارق او المجرم (مثلا) يمتلك خيارات متاحة له في بداية نشاطه فهو لا يمتلك خاتمة ما نشط به من سوء يحيق به بعد اختتام عمله فهو ينال السوء وهو لا يزال حي في الدنيا ... وان تحصل الندم عند المجرم فان الندم لا يقيم (رجعة) ترجع المجرم الى حيازة بدايات نشاطه ليقوم بتقويمها او وقفها فالفعل قد نفذ وسرت فاعليته وصار في اخره بلا خيارات
رحلة فكرية تثويرية تذكيرية مع العقل الفطري والقرءان بخامته الخطابية (لسان عربي مبين) أي انه لسان يحمل البيان نتوقف عند تثويرة استفزاية للعقل يثورها النص القرءاني في (وان الدار الاخرة لهي الحيوان) فالـ (دار) هي من (در ... دار .. يدور .. ) حيث يمسك العقل الفطري الناطق ان (الدار الاخرة) هي من (دورة اخيرة) لنشاط الانسان في اخر ما ينشط به اختيارا ولفظ الدار هنا لا يعني المنزل كما ذهب اليه الفكر العقائدي بل هي دائرة الخاتمة (الدار الاخرة) فما هو دخل الحيوان في الدائرة الاخرة حيث يكون لزاما علينا ان نتفكر بالمثل القرءاني كما طلب الله من حملة القرءان (يتفكرون) وعلينا ان نعقل القرءان فاياته للذين يعقلون (حملة العقل) ولا بد من تفعيل العقل لغرض حمل العقيدة والا فان العقيدة ستكون (خيال) لا يغني العقائدي فتتحول العقيدة الى مجرد انتساب طائفي للاسلام ليس اكثر ..!!
الحياة الدنيا وصفها النص انها (لهو) مرتبط بـ (لعب) فهي في نص (وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب) اما الدار (الدورة) الاخرة فقد وصفها النص الشريف بصفة (لهي) وليس (لهو) ... اذا كان لفظ لهو يعني (فاعلية ربط منقول مستمر) كما هو النشاط البشري المبني على تفعيل روابط فعالة فان لفظ (لهي) يعني (حيازة ناقل مستمر) وذلك من فهمنا العميق للفظي (لهو ... لهي) فهي ليست ملهات كما يتصور الناس بل هي من (له) مربوطة برابط مع الناشط في (لعب) واللعب لا يعني ملعب كالملعب الطفولي بل في مقاصد (قبض النتاج) كما هو (لعاب الفم) الذي يملأ الحلق حين يمسك الانسان باللقمة في فمه فاللعب في مفاهيمنا هو ممارسة طفولية او في رياضة الكبار الا ان المقاصد الالهية لا تبنى على مقاصدنا نحن لان مقاصدنا متغيرة في الزمان والمكان ومقاصد الله ثابتة في رسالته الشريفة الينا ما دامت الارض مسكنا للبشر ... لعب ... تعني (قبض ناقل منتج) وهي صفة لكل نشاط بشري حتى في قتل الوقت فالناشط في قتل وقته انما يقبض ناقل ينتجه الزمن في قتل الوقت او ما يسمى بـ (الانتظار) ... القرءان بين لنا صفات مقبوضة في اليوم الاخر (ثواب او عقاب) فتكون هنلك (حيازة) ولن تكون (مرابط) يقوم المكلف بربطها وما يؤكد هذا الاستدلال التفكري هو ما جاء في القرءان من تاكيدات تؤكد ان الحياة الدنيا متاع الاخرة فالمتاع هو (حيازة) وليس رابط تفعيلي فمن يزرع القمح انما ينشط في تفعيل روابط الارض ببذرة القمح ليحصل على القمح وحين يحوز القمح فقد اصبح القمح متاع اليوم (الاخير) من نشاطه وهو اليوم الاخر وفي النص الشريف التالي تبرز الحيازة بشكل (بيان حكيم) بالغ الحكمة
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7)
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:8)
ففي النص الشريف نقرأ (من يعمل) وهو الناشط في الدنيا والذي يكون حتما لكل ناشطة ينشط فيها الأءدمي ... شرا ... يره ... خيرا ... يره ... وهنا نؤكد ان لفظ (يوم) لا يعني ظرف زمني كما هو يومنا المدني الناتج من دوران الارض حول نفسها فاليوم يعني في المقاصد العقلية (مشغل حيز لفاعلية رابط) وهو وان كانت مقاصدنا في اليوم الزمني فهو في القصد مشغل حيز رابط حيث يتم اليوم الزمني من خلال فعل تشغيلي لدوران الارض حول نفسها برابط يربطها بشكل فعال مع الشمس فهو يوم واليوم الاخر هو يوم ايضا الا انه ليس زمني الصفة بل هو (رابط النتيجة بالفعل) فان كانت النتيجة خيرا يره وان كانت شرا يره .
اذا كانت موصوفات الخطاب القرءاني في اليوم الاخر مردفة بلفظ (الاخرة) فان بيان اللسان العربي المبين يدفعنا لامساك ذلك البيان في ان لفظ (الاخرة) يعني انه حاوية الـ (اخر) أي ان (الاخرة) تحوي اليوم الاخر وهو الرابط التشغيلي الاخير لنشاط الانسان أي (نتيجته) فان كنا نريد تطبيق القانون لمجمل انشطة الانسان في مجمل حياته يقع في لفظ (الاخرة) او لفظ (اليوم الاخر) فانه يقيم الفهم في (المعاد بعد الموت) حصرا أي ما بعد الحياة كحصيلة لكل انشطة الانسان فمجمل الانشطة البشرية تكون (لهي) في حيازة منقولة في ذلك الوعاء ... لو كنا نريد تطبيق القانون الالهي المستحلب من القرءان على نشاط منفرد من انشطة الانسان او حزمة انشطة محددة من حياة الانسان وليس جميعها فان الاخرة واليوم الاخر سيكون مرئيا في حياة المكلف في نتائج تكوينية لتلك الانشطة التي تم تحديدها فقط وليس جميع انشطة الفرد فتكون لكل حزمة من الانشطة في (اخر) فاعليتها (اخرة) خاصة بها حين يتم حسم صفة (الاخير) من قبل نظم التكوين الفعالة نفسها وينقطع الانسان عن قدرته في تفعيل تلك الناشطة او العودة اليها لوقفها او تغييرها ...
يمكن ان نرصد اليوم الاخير للفاعلية البشرية في الموت حيث تتوقف كل فاعليات الانسان وليس حزمة محددة من الانشطة فحسب من خلال منظومة تكوينية توقع الموت في الناشط اما في حزم متفرقة وليس كامل النشاط فان نظم التكوين ايضا توقف فاعلية تلك الافعال البشرية وتبدأ فاعلية اليوم الاخر ويمكن ان نرصد تلك الصفة في الزرع حيث تتوقف فاعلية الفلاح ويتوقف نشاطه الزراعي عند الحصاد
تلك الحيازة المنقولة الى الحائز (لهي) في الدار الاخرة متصفة بصفة (الحيوان) ونحن نعرف الحيوان بمقاصدنا انه ذلك المخلوق الذي يمتلك عقلا منقوصا قياسا بعقل الانسان (العاقل) وقد روجنا في مشروعنا الفكري المنشور ان الحيوان يمتلك اربعة مستويات عقل والانسان يمتلك تلك المستويات الاربعة نفسها مضافا اليها مستوى عقلي خامس
سر العقل والسماوات السبع السماء الخامسة
في مرتسم فكري متواضع نرسم صفة الحيازة المنقولة من حيازة الحائز بشكل مستمر (لهي) بصفة (الحيوان) المنقوص في قدرته العقلية على ربط مرابط نشاطه أي ان تلك الحيازة في الاخرة تنفلت من الحائز الى حيازة اخرى موضوعيا لا تشبه الحيازة في الاولى (انعدام الخيار) أي ان نظم الحيازة التكوينية عند بدء العمل ترتبط باختيار الناشط ولا ترتبط بنظم الحيازة التكوينية في (اخر العمل) واوضح مثل يمكن ان يساق على موصوفة فطرية هو في اطلاق رصاصة من بندقية فان امتلك الرامي خيارات البديء في حيازته الاولى لفعل الرمي فهو لا يمتلك خيارات حيازة الاطلاقة بعد انطلاقها ... تلك التبصرة هي استبصار عقلاني سواء كانت الاخرة بعد الموت او الاخرة في اخر النشاط الانساني وهو لا يزال حي في حياته حيث يفقد الانسان قدرته العقلية على التحكم بالنتيجة فان كان يعمل خيرا يره وان كان يعمل شرا يره ولا يستطيع وقف فاعلية ما يحوزه سواء كان خيرا او شرا ومن ذلك قول كثير من البشر الذين انتقلوا الى وعاء الاخرة حين ينقل الينا القرءان قولهم فهم يقولون (فارجعنا نعمل صالحا).
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (السجدة:12)
وذلك القانون يسري على موقف المجرمين بعد الموت او اثناء حياتهم ايضا فمن يجرم بحق غيره لا يستطيع الرجوع الى يوم البديء ليربط مرابطه في (لهو ولعب) بل هو في وصف اخر (لهي الحيوان) ... اما الذين عملوا الصالحات فلا يحتاجون الى الرجعة اساسا بل المجرمون هم المنفردون بحاجتهم للرجعة دونا من الصالحين ذلك لان الصالحين قد قبضوا نتاج فعلهم الصالح في يومهم الاخير سواء كان تطبيق القانون اثناء حياة الانسان او سواء تم تطبيق القانون الالهي بعد الموت فالامر سيان في نفاذية سنة الله فهي لا تتحول عندما ينقلب الحال الزمني في الموت وهي لا تتبدل عندما ينقلب الحال الزمني عند الموت فهي سنة خلق (قانون الهي) يتفعل في الحياة الدنيا والاخرة (بعد الموت) وعندما يمسك (الصالح) بنتيجة صلاحه لا يرغب عنه حولا بما يختلف عن المجرمين ونسمع القرءان .
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107)
(خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108)
(خالدين فيها) نص قرءاني لا يعني في مقاصد العقل (الخلود) الذي يتصوره الناس في (خلود الزمن) بل خالدين فيها كمن (يخلد الى النوم) فالذي يخلد الى النوم لن يكون في خلود زمني بل في (راحة) تكوينية ومثلها الخلود الى السكينة
الانسان في اخر فاعلية لنشاطه (الواحد) او لـ (حزمة انشطة) مجتمعة متعددة او لمجمل انشطته سيكون حائزا لنتيجة عمله بصفة مختلفة عن بداية تشغيل نشاطه (عمله) ففي اليوم الاخير يفقد الانسان قدرته على ربط مرابط ما يصبو اليه فيكون كالحيوان (مجبرا) ولا يمتلك خيارات تغير النتيجة لانه سيكون في وصف (لهي الحيوان) ويكون ملزما بشكل تام على حيازة النتيجة وان لم يقبلها كالسجين في السجن فهو يحوز نتيجة جرمه سواء قبل بالسجن او لم يقبل به ... الصالحون يختلفون عن وصف المجرمين كما جاء في الاية 107 و 108 من سورة الكهف اعلاه وكما نرى في نص اخر
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الحديد:12)
النور هو وسيلة ربط الصفات فيكون النور ماسكة وسيلة المؤمنين في رؤية مرابط تكوينية تم اعدادها لهم بموجب نظم تفعيلية قام الله بتفعيلها سواء كانت في حياة المؤمنين او في مماتهم فالقانون الالهي (سنن الله) تتفعل في كلا الدارين
الموضوع المطروح اتصف بالايجاز رغم كبر حجم الادراج ذلك لان الموضوعية التي يعالجها الطرح التذكيري تتسع لتشمل كل اركان النظم الالهية المرتبطة بنشاط الانسان الاجمالي وهي تحتاج الى وسعة واسعة من بيانات القرءان المبين الا ان ضرورة صفة المنشورات الالكترونية توجب ايجاز الموجز ليكون في متناول تفكر المتابع الكريم فهي (ذكرى) تذكر الاخر بيومه الاخر والذكرى مفتاح بوابة العقل البشري .
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55)
الحاج عبود الخالدي
تعليق